قلق الولاء في المجتمع الموريتاني (بين سلطان القبيلة وسلطة الدولة)// د. محمد المختار سيدي محمد الهادي

تسعى هذه الورقة إلى تلمس طبيعة العلاقة بين القبيلة التي شكلت ناظما اجتماعيا للمجموعة الموريتانية، والدولة التي هي بنية سياسية طارئة على هذا المجتمع. وإذا كان من المفترض، نظريا على الأقل، أن يتقلص نفوذ القبيلة لصالح سلطة الدولة، وأن يتحول الفرد الموريتاني من ربقة الولاءات والارتهان القبلي والجهوي الضيق إلى الشعور، بل والقناعة، بالانتماء إلى كيان سياسي جامع يحقق في كنفه المواطنة والعيش الكريم، فإن الواقع المعاش، غالبا ما يشير إلى عكس ذلك، فبعد أكثر من نصف قرن من عمر الدولة الوطنية مازال أغلب الموريتانيين أكثر تشبثا بالانتماء للقبيلة، وأكثر ولعا بقيمها، وأعرافها، طالما أنها تضطلع بأدوار بالغة الأهمية في التكافل الاجتماعي، وإصلاح ذات البين، وتتحمل ماعجز عنه أهله من دين وتبعات، وهي بهذا المعنى، في نظر هؤلاء، تمثل سلطة شرعية في المنظور الفقهي  والثقافة الاجتماعية.

 وهكذا أفاق الأهلون في هذه الربوع على نسقين من الحكم أصبحا يتعايشان معا في فضاء واحد وآليات وقوانين متعارضة بل ومتناقضة، وأضحى الفرد في هذه الدوامة جزءا من هذا الواقع المزدوج المربك بين الدولة ومؤسساتها الطارفة، والقبيلة وبنياتها التليدة، ومكانتها السامقة في عقول وقلوب الأفراد والجماعات.  ولا شك أن هذا الواقع كان نتيجة منطقية  لعوامل تاريخية واجتماعية تفاعلت في المكان والزمان ، وأدت إلى تكريسه لعل من أهمها أن ساكنة هذه الربوع الصحراوية، في أغلبهم أهل نجعة، ولاعهد لهم بسلطان الدولة المركزية، وليست لهم دراية ومراس كافيين  بأمور الحكم و تقاليد السياسة وضوابط الولاء، وهذا ما جعل الإدارة الفرنسية طيلة النصف الأول من القرن العشرين تجد صعوبة كبيرة في السيطرة عليهم، وتعتمد في ذلك، أحياناً، على وسطاء محليين من الرؤساء التقليديين مثلاً، وهو ماعبر عنه الباحث الفرنسي Balans " بإدارة الفراغ"، ذلك أن أغلبية السكان لا ترى أنها معنية بشؤون الدولة، ولا تحس بروابط معها، بل إن الدولة في نظرها ليست إلا استنساخا باهتاً للاستعمار، ووسائله السلطوية المشئومة من جباة الضرائب والغرامات، ومن حاملي أوامر الترحيل القسري والتجنيد الإجباري.

وفي ظل الاستقلال تكرست القطيعة فظل الشعب، أو في الأصح الغالبية العظمى منه، غائبة ومنعزلة عن الأحداث المتلاحقة التي أدت إلى قيام الدولة، وهذه الوضعية المرتبطة بالظاهرة الاستعمارية، والواقع الاجتماعي المحلي، والمتمثلة في عدم ارتباط حركة أغلب المجتمع بالمتغيرات الحاصلة خارجياً، وحتى داخلياً، هي التي ميزت البدايات الأولى للتطور السياسي الموريتاني، فالشعب ظل المعني الغائب بأحداث الاستقلال، تماماً كما هو الحال في أثناء المرحلة الاستعمارية وهذا ما حال دون توفر القدر اللازم من الشرعية الاجتماعية للدولة الجديدة في نظر الكثيرين.

لقد خرجت الدولة الوطنية إذن، من رحم النظام الكولونيالي، وفيها من ملامح ومظاهر مشروعه، ما ترك انطباعا لدى الكثير من القيادات القبلية ومراكز القرار الاجتماعي، تحول مع مرور الوقت إلى شبه قناعة، أنها وريثة النظام الاستعماري، بل ربما هي تخريج جديد للمشروع الفرنسي بواجهات محلية، غير أنها هذه المرة بلا "أظافر" مما يغري البعض بإمكانية تحقيق مكاسب في ظلها دون أن يتكلفوا عناء القيام بأبسط الواجبات.

وخلال هذه المرحلة لم تكن القبائل تساوم على ثوابتها الاجتماعية ورموز سيادتها كتصنيفها للأعداء والحلفاء، وكذا أملاكها العقارية، ومجالها الترابي و من الصعب أن تستوعب المفاهيم الجديدة من قبيل " الشعب الواحد "، و" الأمة "، و"الدولة الوطنية"  و" المصلحة العليا " وهوما أثر سلبا على أداء أجهزة الدولة في مراحل لاحقة، ورغم الانتشار الأفقي للهيئات الحزبية في أغلب مناكب البلاد فإن العلاقة بين بنياتها المحلية، والهياكل القبلية ، لم تتجاوز عملية تكييف للرموز التقليدية مع المراتب والبنى الحزبية، بحيث غدا الحزب وكأنه إعادة تشكيل للظاهرة القبلية بمسميات مستحدثة، لكن المضمون الاجتماعي لم يتغير كثيرا.

وفي ظل الارتباك الملازم لمراحل التأسيس، وضغط تحديات الوحدة الوطنية والاعتراف الدولي لم يكن أمام القيادة السياسية غداة الاستقلال من خيار سوى اعتماد التوازنات والحلول التوفيقية وعدم الحسم حتى في الثوابت الكبرى، مما أحدث عيوبا خلقية لازمت الدولة الوطنية منذ نشأتها ومازال بعضها يلاحقها ، وهو ما جسدته الدساتير الأولى التي جاءت مترددة ومحتشمة،  أو قل إنها مرنة وغامضة، ، وقد ترتب على ذلك أن أصبحت الدولة في نظر الكثير من "مواطنيها"عقداً اجتماعيا طوعياً لتحقيق المكاسب أو اللجوء إلى الخصام فيما عدا ذلك.

إن هذه الأساليب قد تكون حلاً مقبولاً لإدارة بعض القضايا السياسية العارضة، وقد تكون ضرورية في بعض المواقف، ولكنها في كل الحالات لا تمثل الحل الأنسب للتعامل مع الثوابت الوطنية الكبرى من قبيل الوحدة والهوية واللغات والحق والواجب، وهي أمور لا تحتمل المساومة ولا المرونة، بل تتطلب سن قوانين صارمة،وإلزام الجميع باحترامها، في إطار مقاربة وطنية تستجمع عوامل الوصل بين مكونات الطيف الاجتماعي والسياسي وتؤسس عليها، وتؤشر نوازع الفصل وتضع التصورات المستنيرة للتعامل معها وصولا إلى إنصاف الجميع، وليس بالضرورة إلى إرضائه.

 

   لقد تعمقت الأزمة، لاحقا، بفشل الإصلاحات التعليمية التي أخفقت، إلى حد الآن، في بلورة مشروع وطني للتربية والتكوين يحدد الغايات والأهداف المرجوة، ويأخذ في الاعتبار هوية الأمة ومشتركاتها الثقافية والحضارية، واقتصرت المناهج المعتمدة على تلقين مفردات ومعارف بلا ناظم، وبلغات مختلفة وكأن النشأ لا ينتمي لوطن واحد، مما يعني في نهاية المطاف غياب رؤية واضحة حول ملامح المواطن الذي يفترض تكوينه، والذي تنعقد عليه الآمال في الاحتماء للدولة والانصياع لقوانينها ونظمها. وهو ما يستدعي بالضرورة تفكيرا جديا في إصلاح وترشيد المنظومة التربوية، التي هي قاطرة التنمية وصمام أمان الشعوب.

 

ولا يبدو التقسيم الإداري لموريتانيا، الموروث عن الاستعمار والمبني على الرؤى والهواجس الأمنية في أغلبه، لايبدو مقنعا ،لا من الناحية الطبيعية، ولا من المنظور الاقتصادي، ولا حتى اعتبارا للديمغرافيا، بل لعلنا لا نبالغ إذا اعتبرناه أكثر انسجاما مع الانزياحات والخرائط العشائرية، مما يحفظ للقبيلة حرمة مجالها، وسطوة رجالها في حالات غير قليلة، وهو ما انعكس لاحقا على التمثيل في المجموعات المحلية والهيئات التشريعية ودفع بشخصيات عامة ظل أغلبها يرفع عمامة القبيلة، وتناط به مهمة سن قوانين الجمهورية والسهر على تطبيقها. ولا شك أن ظاهرة التقري الفوضوي، إثر سنوات المحل في سبعينيات القرن العشرين، قد شكلت، هي الأخرى، إحدى تجليات طغيان المزاج القبلي المتحكم في عقول الناس وقلوبهم، وهي إلى ذلك مظهر من مظاهر عجز الدولة عن توجيه الإرادة القبلية، وكبحها عن سلوك لا يستجيب لأدنى ضوابط العمران الحديث، ويضاعف كلفة المشاريع التنموية.

 

ومن العوامل التي كرست تعايش الخطاب الحداثي للدولة وواقع تأثير السلوك القبلي المهمين ما يلاحظ من عجز النخب االسياسية الشابة عن بلورة مشروع وطني واعد مؤسس على قناعات ذاتية بعيدا عن توطين تجارب الآخرين والتشبث بالمؤسسات المستوردة، وعدم التورع عن إشهار سيف القبيلة للاستفادة من مغانم الدولة، أو استغلال شفاعتها للحصول على منصب، أو للخلاص من عقوبة مستحقة.

وإذا كان البعض يتنبأ اليوم بإمكانية حصول حل مرحلي تتصالح فيه القبيلة والدولة في موريتانيا على أساس منح الأخيرة للأولى مكانة خاصة في مقدمة الرموز التراثية مقابل تنازل الأولى للأخيرة عن الأدوار الأساسية في تسيير الشأن العام، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا فلا الدولة في واقع كهذا قادرة على إلزام القبيلة بهذا المستوى من الهامشية، ولا القبيلة قانعة بنصيب قليل من غنيمة حرب لا ترى أنها قد خسرتها.

وخلاصة القول إن تحجيم الدور المتنامي للقبيلة لا يتأتى إلا من خلال اضطلاع الدولة بالوظائف المنوطة بها وأولها تحقيق الأمن بمفهومه الواسع، وصون الحريات الفردية والجماعية وتعزيز العدالة الاجتماعية، والمضي في إصلاح  الإدارة والقضاء، والعناية بالشرائح الهشة من كل فئات المجتمع، ومراجعة التقسيم الإداري على أساس أقطاب التنمية، وإعادة الاعتبار للمدرسة الجمهورية التي تنشر قيم التآخي والتراحم، وتنمي في النشإ حب الوطن وصدق الانتماء إليه، والاعتزاز بتاريخه ورموزه، وتمجد قيمنا الدينية والحضارية، وتعزز المواطنة المثالية التي تشعر الفرد بالأمان، وتقطع الطريق على النزعات العرقية والشرائحية المقيتة، ويومها يمكن الحديث عن بوادر فك الارتباط التدريجي مع القبيلة، والمصالحة بين الفرد ودولته التي تحقق له المواطنة والعيش الكريم، فلمثل هذا فليعمل العاملون.

 

وختاما فإنني أعترف بالقصور في إثراء جوانب هذا الموضوع؛ وحسبي أنني أثرته على مائدة البحث والنقاش، وقدمته للقارئ الكريم، ولرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.