لعله من المفيد الالماح إلى علاقة الشعر بالوجدان و هي بطبيعة الحال علاقة وثيقة "فالشعر يعبر عن الحياة كما يحسها الإنسان من خلال وجدانه و لهذا كانت وظيفته الأولى التعبير عن الجوانب الوجدانية من نفس الإنسان"[1] ، (و هنا نشير إلى وجود مفهوم الشعر الوجداني)
و هي علاقة أشبه بعلاقة الشعور بالشعر ، و من يسوغ لنا أن نبدأ سفرنا على أثباج سفينة القريض رفقة ربانها الشاعر الكويتي عبد العزيز سعود البابطين و قلبه المفعم بالهيام في وجد أزلي يرافقه و هو "مسافر في القفار" نبحر إذا خلف وجدانه المرهف و هو يحدو أحاسيس نجدها متأرجحة بين ثنائية الحضور و الغياب .
الحضور لحظة يلقي الماضي بظلاله الساحرة على مخيلة شاعرنا فتستخفه الذكريات العذبة لأيام الوصال و مهادنة الزمان ، فتستمرئ القوافي الاسترجاع الممتع للحظات أنس هي وقود صبر الشاعر الواله ،بينما يتحول هذا الحب إلى ذكرى حين تبعد الشقة و يطول السفر و تعود تلك اللحظات القهقرى عندها يجدف الشاعر في بحر الأحلام القزحي مبرزا ملامح تشكل الخطاب الوجداني في خارطته الشعرية "ياحب"[2]:
يا حب ما أنت لا تفنيك غائلة من الدهور و تبقى أنت تفنينا
يا حب أبقى حبيبا طول أزمنتي رغم التباعد رغم البين يضنينا
يا شعر أنت أنيسي في متاهتنا و أنت أنت الذي تملي تناجينا
يا شعر قلها و عبر عن مشاعرنا فالوصل بالوهم يغني بل يسلينا
إن القراءة المتأنية لديوان هذا الشاعر المعاصر تزيد من اطمئناننا لفرضية عملنا على اختبارها في أطروحة دكتوراه و هي هيمنة الغزل على المنظومة الغرضية للشعر العربي لاسيما في لحظتها المعاصرة و هي هيمنة مارسها البعد الوجداني بشكل عام و الغزل على نحو أخص على ديوان "مسافر في القفار" بشكل لافت فبالرغم من العوامل الزمكانية المتباينة إلى حد ما ، ظل الخطاب الغزلي بوصفه تجليا من تجليات البعد الوجداني ظل إذا الخيط الرابط أو الإطار الغرضي المميز لهذا الديوان فالشاعر يتنقل من نص إلى آخر متغزلا أو شاكيا الفراق متحسرا على زمان تولى ،أو باكيا لحظات وصل انصرمت فهو إذا يتقمص شخصية عاشق قد لا يكون بالضرورة ذلك العاشق التقليدي الذي يقف بالدمن الدارسة و يبكي الرسوم العافية بل هو عاشق من طراز جديد يخوله أن يكون "رمزا للحب"[3]
اسألو الشمس ... هل رأت مثل عشقي مذ أنيرت أو عاشقا عاش مثلي
عاش يسقي منابع الحب حتى صار رمزا للحب في كل نزل
أنا أهوى الجمال في طبع سلمى فأحب الجمال قلبي و عقلي
ففي الحين الذي لا يستبعد فيه أن يكون متكأ هذا البث الوجداني الجياش صدق عاطفة و ولوعا لا متناه بالجمال يجعل الشاعر ربما يتعمد التناص لا مع أي شاعر عربي قرض الغزل بل مع رائد الغزل العذري جميل بثينة حين يقول :
خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلا بكى من قاتله قبلي
إلا أنه في تقديرنا أن هناك منحى أعمق من مجرد تجارب ذاتية متعلقة بحياة الشاعر ، بل هو رمز لرؤى فكرية ، أنتجتها عوامل حضارية و ثقافية و اجتماعية تجعل الحب بعضا من تجليات هذا الفن الشعري الذي يعد من " أقدم الفنون و ألصقها بالشعر الغنائي ، يفترض في الصادق من هذا الفن أن يصدر عن أعماق النفس ، وأن يكون معبرا عن أرهف الأحاسيس البشرية"[4] فهو إذا أكثر الأغراض التصاقا بالذات لما يترجم عادة من أحاسيس ويصور من مشاعر ولأنه كما يقول بن قتيبة "لائط بالقلوب ... ولا يكاد يخلو أحد من أن يكون متصلا منه بسبب ، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام "[5] ، و لهذا نجد وجدان الشاعر ينوء بوجد أنهك أحاسيسه المرهفة ، و قد تراءت في مخيلته صور الوداع و استمرأت مسامعه إغاظة قلبه الواله و هي تعيد عليه "حسرة الحبيبة"[6] و هي :
تقول بحسرة فاقت هديـــــلا شجيا يوجع الحزن المريرا
أباق عندنا حينا لنهنـــــــــا أم أنك راحل عنا شهورا
فقلت لها و في تفسي و قلبي بلاء زادني وهنا ظهيـــرا
سيبقى القلب عندكم رهينا و يبقى الشوق للمعنى أسيرا
هو إذا بوح على الطريقة الزيدونية كما أرادها الشاعر و صرح بها في مفتتح ديوانه كما هو مغازلة ل"ولادة" حين لا ابن زيدون يراودها و قد خلا لشاعرنا الجو فبات يزجي لها رسائل حب ناءت بها الحروف مستعيرا وجدان ابن زيدون الأثير عندهما معا في "رسالة إلى ولادة" [7]:
ملكت فؤادي يا فتاة عشقتها بأندلس ظمآن للحب صاديا
بها من سمات الشرق و الغرب ما سبى فؤادي و أغواني و أورى خياليا
تذكرت أيام الصبابة و الجوى بأندلس و الحب إذ كان صافيا
و "ولادة" الإبداع و الشعر و الهوى و فن "بن زيدون" يناغي القوافيا
إنه الولاء الوجداني لقوافي أسير هوى ولادة بنت المستكفي يسري في أوصال الشاعر عبد العزيز البابطين حين جال في مرابع الأندلس و جالت به الذكريات في الماضي العبق و استخفه الشوق لذاك الزمان الخصيب.
و هنا نفتح قوسا صغيرا لنتبين أن هذا الولاء الزيدوني الأندلسي جاء عن وعي تامٍ حيث يمثل تأثر الشاعر عبد العزيز سعود البابطين بالقصيدة العربية في لحظة من لحظاتها المميزة هي اللحظة الأندلسية و ما اتسمت من به تطور مهما كان نسبيا فيما يتعلق بمكونات الخطاب الشعري و لعله من المفارقة أننا يمكن أن نتلمس معظم خصائص الشعر الأندلسي في الديوان الذي بين أيدينا لا لأن الشاعر في مفتتحه أخطرنا بل لأن مستوى المعجم و ما طبعه من سلاسة و رقة و عذوبة و سيطرة سجلات الطبيعة والتزام الإيقاع الخليلي إطارا موسيقيا و العناية بظواهر من قبيل التقفية الداخلية و التنغيم و الترصيع و ازدواج البحور قصيدة "حسرة الحبيبة" و استعمالها مجزوءة كما نلحظ عنايته بالصور الشعرية من منطلق أن "الصورة في الشعر هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ و العبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة ، مستخدما طاقات اللغة و إمكاناتها في الدلالة و التركيب والإيقاع و الحقيقة والمجاز والترادف والتضاد ، و المقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني"[8] ، ناهيك عن هيمنة الغزل و الوصف على نصوص الديوان تماما مثلما أخذت نصيب الأسد من مضامين الشعر الأندلسي.
إن أهم المحاور التي استوقفتنا أثناء تتبع البعد الوجداني في ديوان مسافر في القفار هي ثنائية الحب و الاغتراب في علاقتها الوجدانية بماضي الشاعر و تأثيرها على لحظته الراهنة ، إذ لا نجده ينفك من أسر الحب إلا ليتيه في معاناة الاغتراب ثم يتراءى له الحب مخلصا كرة أخرى ليدور في خط الزمن الدائري في سيرورة تبدأ بالحب و إليه تؤول ، و هو حب بالمفهوم العميق للكلمة بمعنى أن الشاعر يختزل فيه القيم الإنسانية و الأخلاقية و التراثية و الحضارية و هو يحس سلطة الزمن الحالمة حين تهادنه حتى يطمئن لصفو وداد الليالي و يعلنها مدوية مع الينبوع الزاهي[9]:
شربت الكأس يوم صفا زماني من الينبوع في أزهاه مربع
فيا نعمى ليالي اللواتــــــــــــي بهن شربت كأس الحب مترع
لكن وخزة من حنايا قلب مغرم تؤذن شاعرنا ب"ضياع السنين"[10] عنوان إحدى قصائد الديوان ليستشعر أن حبيبا و قد أوردها بصيغة النكرة ربما لتحيل لا إلى شخص بعينه بل إلى هم وجودي و قضية يختزلها حين يسميها حبيبا :
عاش بالوجدان دهرا يرتوي من شبابي و أنا الصادي الظمي
خلته للنفس يغدو بلسما و شفاء لجراحي المؤلم
فبدا شعري و قد ألهبني جمره الزاهي كأن لم يفهم
ليعود مجددا إلى إحساسه بالغربة حيث يرد لا كوسم لإحدى القصائد فحسب بل هو في تقديرنا الخيط الناظم لنصوص الديوان وجدانيا بل يمكن القول إنه الملهم الأول و الحافز الأهم للشاعر كي يترجم تلك الأحاسيس شعرا يقطر أسى و يفيض ولها و الشعور بالغربة شعور قديم قدم الشعر شكاه الشعراء و ترجموه عبر مسيرة الشعر العربي فله يصور أبو الطيب المتنبي :
مغان الشعب طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
و لكن الفتى العربي فيهــــــــا غريب الوجه و اليد و اللسان
و لكننا نجد الشاعر بإحساسه المرهف يسعى جاهدا كي يلبس هذه الاحساس بالغربة لبوسا وجدانيا ،فينبري معترفا بالحب تارة واصفا لواعج الشوق تارة و ساردا للحظات و منظرا تارات أخرى هي إذا مخاتلة لأحاسيس القارئ حين يوهمه أنه يبوح بسر جد خطير و لكن هذا التمويه بما هو تقنية فنية لا يلبث أن يستحيل وترا جماليا عليه يعزف "السر"[11] و في هذا الشرك يعلق القارئ حين تأسره ظلال حب بدأ ذاتيا يأتيك مشبها واحد لكن المشبه به هو مقومات الحياة المادية و المعنوية:
مازال حبك في دمي يجري و في قلبي يؤج و يستريح على فمي
هو في حياتي كالشعاع لناظري كالماء يجري صافيا و أنا الظمي
ثم ما يلبث يتعالى و يرتفع إلى مرتبة يكون فيها شبيها بشعيرة تعبدية هي عماد الدين الإسلامي و عليها تترتب السعادة الأخروية و من ورائها ترجى مضاعفة الثواب حين تستحضر النية و يحصل قصد التقرب بها إلى الله فترتقي بمؤديها أعلى الدرجات:
حب تعاظم كالصلاة ترددت للحسن من متعبد متيمم
ناديت باسمك كل نجم ساهر مثلي بليل ساطع الأنجم
و قرأته في كل ما عيني ترى و سمعته في صوت كل مرنم
في اعتقادي أن هذا النص يسجد تصور الشاعر عاطفيا و إيديولوجيا حيث جاء متسقا متناسقا بلغة مشرقة أسفر فيه الشاعر عن رؤيته للحب بوصفه رمزا لكل الأماني و الأحلام التي إليها يصبو الشاعر بل أمته و هو ما أضفى على الحب في هذا النص قيمة مزدوجة إن لم نقل مضاعفة فعلى على جبين حبه الوجودي ارتسمت ثنائية الحضور و الغياب مقيما ما يسميه توروف علاقات الغياب و الحضور فاستدعى كل القيم و الدلالات الحافة لينسج من هواه نموذجا ظاهره حب عذري و باطنه هم وجودي و نزعة إيديولوجية أصخ له و هو يقول :
فاسم الحبيبة بت أخلعه علــــى ما في الخليقة من جمال ملهم
يا من إذا اتقـد الغرام رأيتهـــــا في الشمس في قمر الدجى في الأنجم
قد كنت لي في ما مضى قبل النوى وجــه الوجود المشرق المتبســـم
و اليوم بــــات ذكرى هواك نشوة جذلى و مبعث حسرة و تـــــألم
يا من هويت لأجلها عمري ويــــا ذات التواجد و الغيـــــــــاب الأعظم
يــــــا من عرفت ببعدها و بقربها ألم الشقي ، و بهجة المتنعــم
إنه التبتل في محراب حب يمتزج فيه الأنا بالكون و يلجأ الشاعر في خطابه الوجداني إلى استرتيجيات التفاعل النصي لكن هذه المرة يأتي التناص مع الشاعر الفارس أبي فراس الحمداني في قصيدته :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم و في الليلة الظلماء يفتقد البدر
في نص بعنوان "تشرد"[12]
سيذكرني قومي إذا الدار أحدقت بها نازلات الدهر و هي تصول
و يذكرني قومي إذا المجد غيبت كواكبه أو غـــــــــــــالهن أفول
و لئن كان أبو فراس قد استهل بمقدمة غزلية وفاء منه لبنية القصيدة العربية في لحظة من لحظات قوتها ثم خلص إلى الفخر فإن شاعرنا يجانب ذاك التقليد الفني محتفظا بالإطار الغرضي و مضيفا إلى نسق القيم المعروفة من شجاعة و كرم ووفاء و صبر ، الحب بوصفه قيمة بل قوة تعتلي هرم القيم الإنسانية في تصوره:
فأهدم بالعزم الوطيد قلاعها و أقهرها بالصبر و هو جميل
و أغلبها بالحب و الحب قوة تخور الرزايا عندها و تزول
خلاصة لما سبق نعود لنقول إنه في اعتقادنا و انطلاقا من تصفحنا لديوان "مسافر في القفار" فإن اشتغال عناصر و مقومات الخطاب الشعري قد انبنى على أساس ثنائية الحب و الاغتراب مما يجعل المنحى الوجداني يطبع النصوص مع مسحة تنظيرية و نزعة تراثية تتجسد في لحظات تناص مع النص الشعري القديم معنى و مبنى كل هذا في لغة قريبة المأخذ ووفاء تام للنظام الخليلي بالإضافة إلى شعور بالانتماء و الهوية العربيين
المراجع :
1 - ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، الجزء الأول ، ط:2 ، 1985 ، دار المعارف – القاهرة
2- جبور عبد النور ، المعجم الأدبي ، ط:1 ، 1979 ، دار العلم للملايين
3- الولي محمد ، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي و النقدي ، ط:1 ، 1990 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت – لبنان
4- جعفر الحسيني ، تاريخ الأدب العربي الجاهلي ، دار الاعتصام
[1] - جعفر الحسيني ، تاريخ الأدب العربي الجاهلي ، دار الاعتصام ، ص52
[2] - الديوان ، ص:25
[3] - الديوان ، ص:30
[4] - جبور عبد النور ، المعجم الأدبي ، ط:1 ، 1979 ، دار العلم للملايين ، ص: 186-187
[5] - ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، الجزء الأول ، ط:2 ، 1985 ، دار المعارف – القاهرة ، ص:85
[6] الديوان ص11
[7] - الديوان ، ص:76
[8] - الولي محمد ، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي و النقدي ، ط:1 ، 1990 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت – لبنان ، ص:10
[9] - الديوان ، ص:46
[10] الديوان ، ص:53
[11] - الديوان ، ص:71
[12] الديوان ، ص:14