لقد من الله علي بنعمة التعرف على وطني وتركبته الاجتماعية وتنوع أعراقه وقومياته،التي عرفتها عن قرب وتجولت في مواطنها وقراها وأحيائهاوقابلت وجهاءها وشبابها وحاورتهم وسامرتهم وعاملتهم وصحبتهم وصادقتهم وأحببتهم وأحبوني وأكرموني...
ولقد دهشت لما حباهم الله به من رسوخ في دين الإسلام وتشبث بقيمه الفاضلة وخلاله الكريمة،فالمساجد شاهقة مزخرفة بديعة العمران والأثاث،عامرة بالمصليين والمصليات، والمحاظر تعج بطلاب القرآن والشريعة الغراء واللغة العربية...
وهم يجلون أهل العلم الذين يحظون عندهم برتب رفيعة ومكانة عالية لا يحظى بها غيرهم..
وإنهم ليكرمون الضيف ويحتفون به وينزلونه أحسن البيوت ويطعمونه ألذ الوجبات ويبشون في وجهه ويفرحون بمقدمه..
وإن ذلك ليستوي فيه البولاريون والسننكى والوُولف..
وإني لأستغرب من بعض الكتاب والمثقفين محاولتهم سلب هذه المجتمعات انتماءها الإسلامي وتعلقها باللغة العربية ونعتها بالتشبث بلغة المستعمر،وهو الذي حاربه أجدادهم وانغلق عنه أحفادهم...
إن اللغة العربية جزء من كينونة هذه المجتمعات المؤمنة بالله العاملة على دراسة قرآنه وتدبر آيه والمتخذة من الفصحى وإتقانها وسيلة لذلك.
وللحفاظ على هويتها الإسلامية فقد انبرت من كل قومية فئة اجتماعية تدرس القرآن وشريعة الإسلام وتتعلم العربية وتتولى الشؤون الدينة ومسؤولة عنها ومفوض أمرها لها بدون منازع.
ولكي تقوم هذه الفيئة بما عهد به إليها تحرص على تعليم أبنائها وترسلهم للعلماء وشيوخ المحاظر لينهلوا من علمهم بل إنهم يرسلون النابغين منهم للدراسة بمعاهد إسلامية عريقة كالقرويين والأزهر وجامعة محمد بن سعود الإسلامية...
ولقد كان لي شرف كبير بمجالسة العديد منهم والمتعة بحديثهم البديع الفصيح،ولا أنسى أبدا يوم مازحني الأستاذ أحمد كلي با من سرندوكو قائلا ومفتخرا:نحن نتقن الفصحى حديثا وكتابة أما أنتم فتتقنون كتابتها لكنكم لا تتقنون الحديث بها..وكان يتكلم وهو يكتب على ورقة رسالة حبرت حروفها تحبيرا...فما أحسن خطه وما أبين وأفصح لسانه!!
ولا يفوتني التنويه إلى ما أفادني به أحد الإداريين الموريتانيبن العاملين في مؤسسة(دولوس) التي تُرمى بمحاولة التنصير،من أنهم صنفوا البولاريين ضمن المجموعات التي لا أمل في تنصير أحد منها وذلك لتجذر الإسلام في نفوسهم ومجتمعهم..
كما لا أزال أذكر طراوة القرآن وحلاوة ترتيله وهو ينبثق من أفواه أئمة في كيدماغا يرتله سيسى أو جاغيتى أو كوريرا...
ولقد جمعني مجلس مع كوريرا فدهشت لفصاحته وجودة بيانه قبل أن يحدثني أنه ضرب في فجاج الأرض وجاب الأقطار حتى وصل إلى مصر وتخرج من الأزهر الشريف...
كما لا أزال أذكر أحاديث تناولتها مع الأستاذ والوزير محمد مودي كمرا،تنم عن وعي متأصل بقضايا الأمة وأوضاع المجتمع وكان فصيحا بينا..
وقد كان لي شرف اللقاء بمثقفين وأساتذة من الوولف يتقنون العربية ويحبونها وهذه المرة سأضرب مثلا بتاء التأنيث،فقد بهرتني معرفة الأستاذة بنتا شيخ كي باللغة العربية وحبها الشديد لها..
ويكفي دليلا على ما تفوهت به من حب إخوتنا الزنوج للإسلام واللغة العربية ما حدثني به مسؤول الحالة المدنية في سيلبابي عام 2005م،وذلك في أعقاب زيارة وفد من الاتحاد الأروبي لمعاينة أسر العاملين من السوننكى في أروبا،حيث اصطحب الوفد وطاف معه في أرجاء كيدماغا،فزار جاكيلي وونبو والتيشطاي وول امبني وحاسي شكار...فصعق الوفد الأروبي ونظر كبيره إلى مساعده وخاطبه بالانجليزية قائلا:إن أموالنا تستخدم لتوطيد الإسلام في هذي الشعوب،وأشار إلى المساجد المشيدة وفق أحسن التصاميم المعمارية،ولم يكونوا يحسبون أن رفيقهم يعرف الانكليزية،فأسقط في أيدهم بعد أن رد عليهم قائلا:إنها أموالنا وعرق جبين أبنائنا..
كما أنه لا يخفى على مصل في مسجد أن المحاظر والمساجد في انواكشوط واترارزة وتكانت...ملآى بأبناء مدن وقرى الضفة الذين تجشموا عناء السفر والبعد والغربة من أجل تعلم اللغة العربية والشريعة الإسلامية وذلك للحفاظ على ما تركه لهم أجدادهم من تعلق ودراية بذلك المعين الصافي،معين الحضارة الإسلامية التي نشرها أسلافهم في جنوب الصحراء ورسخوا قيمها ولغتها في ربوع القارة السمراء..
ولا يجادل في هذه الأمور إلا من يحاول يائسا طمس تراث يأبى الإضمحلال وتسهر على كلاءته وحفظه عيون اكتحلت بالأرق وتجشمت عناء المكابدة وذل الغربة من أجل الحصول عليه،فلماذا يتجاهل بعض مثقفينا بأن اللغة العربية أرسخ في القوميات الإفريقة من لغة المستعمر،وأحب إليهم وأكثر اندماجا مع لغاتهم وأعمق تأثيرا في وجدانهم...؟!!