وسائل الإعلام الرّقميّة والتّغييرُ الاجتماعيّ في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا//د. محمّد عبد الودود أبغش

الكلمات المفاتيح: وسائل الإعلام الرّقميّة، تكنولوجيّات الاتّصال الجديدة، التّغيير الاجتماعيّ، الشّباب العربيّ، الرّبيع العربيّ.

 

المقدّمة

هذه الورقة مناقشة للعلاقة بين وسائل الإعلام الرّقميّة (و.إ.رة) والتّغيير الاجتماعيّ من خلال أمثلة من السّياق العربيّ (الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا). فلذلك سيحاول هذا المقال استكشاف طبيعة العلاقة بين التّطوّر التّكنولوجيّ وآثاره على المجتمع. صحيح أنّ الجانب التّقنيّ عامل (ظاهر) مهمّ في عمليّة التّغيير الاجتماعيّ، لكنّه ليس كلّ شيء، وإنّما هو الجزء البارز من ’جبل جليد‘ التّغيير. ذلك أنّ ثمّة جوانب اجتماعيّة وسياسيّة (باطنة) أعظم أثرا من الجانب التّقنيّ لما تهيّئه من قابليّة التّغيير. يُفصَّل القولُ في كلّ ذلك من خلال المحاور التّالية.

 

الإنترنت القوّة العظمى

أدّت الإنترنت إلى تغيير كبير في سير التّاريخ الإنسانيّ. فلم تخرق الضّوابط الاجتماعيّة (المتعارَف عليها منذ القِدم) فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى زيادة سرعة الحياة إلى حدود عجيبة. فلا يُعلَم تماما ما سيكون عليه العالَم حينما تتبيّن معالم هذه الثّورة كلّيّا (Gul, 2014, p. 94). والحقّ أنّه لا أحد يستطيع إغلاق الإنترنت. فالإنترنت هي القوّة العظمى الجديدة في العالم. وأمريكا ليست القوّة العظمى، لأنّ أمريكا لا تستطيع إغلاق الإنترنت ولكنّ الإنترنت تستطيع إغلاق أمريكا (Gul, 2014, p. 84).

 

تحوُّل من المجتمع الصّناعيّ إلى مجتمع المعلومات

يشهد المجتمع المعاصر ”تحوّلا من المجتمع الصّناعيّ إلى مجتمع ما بعد الصّناعة، أي مجتمع المعلومات، وكما يرى Daniel Bell فإنّ المبدأ الأساسيّ في هذا التّحوّل هو أنّ المعلومات تحتلّ موقع المركز في هذا التّغيير الاجتماعيّ“ (حمادة، 2008، صفحة 156). بفضل و.إ.رة شهد البشر تفاعلا عالميّا في جميع الأصعدة (سياسيّا، واقتصاديّا، واجتماعيّا وثقافيّا). وهو تفاعل يقوم دليلا على تحقّق رؤية ”ماكلوهان“ عن ’القرية العالميّة.‘ فالمجتمعات والسّياسات تؤثّر وتتأثّر ببعضها البعض، بقطع النّظر عن المكان أو الزّمان (حمادة، 2008، صفحة 148).

 

دور و.إ.رة في التّغيير الاجتماعيّ

التّغيير الاجتماعيّ قضيّة من ثلاث قضايا رئيسة في النّظريّات الاجتماعيّة للاتّصال الجماهيريّ. والجدير بالذّكر أنّه ”لا توجد نظريّات اجتماعيّة خاصّة بالاتّصال الجماهيريّ ولكن هناك تطويع للنّظريّات الاجتماعيّة للتّعامل مع قضايا الاتّصال الجماهيريّ“ (حمادة، 2008، الصفحات 100-101).

يُتوقّع من و.إ.رة تحقيق أهداف اجتماعيّة وسياسيّة كبرى في الشّرق الأوسط: ألا وهي محو الأمّيّة (التّعلّم) والقضاء على الفقر (Burkhart & Older, 2003, p. 25).

وفي السياق ذاته تقول الباحثة التونسيّة نرجس الحيدوري إن الإنترنت صارت ”وسيلة اتّصاليّة هامّة لدى فئات المجتمع التّونسيّ وأحدثت جملة من التّغيّرات الاجتماعيّة، لا سيّما الرّوابط بين الأفراد داخل الجماعات والمجتمع عموما“ (الحيدوري، 2006، صفحة 69). ففضلا عن تغيير و.إ.رة لطرائق عمل وتنظيم مؤسّساتنا المدنيّة، فإنّها تمارِس تأثيرا حتميّا على طرائق تفكيرنا ومعاملاتنا مع الآخر (Salem, 2009, p. 175).

برز فاعلون جدد في الفضاء الاجتماعيّ-السّياسيّ بفضل إتقانهم التّكنولوجيا، دورُهم بثّ المعلومات واستقبالها. وهم ثلاثة أصناف: (أ) المقرصِنون المعلوماتيّون، يستعملون التّطوّر التّكنولوجيّ لغايات إيديولوجيّة أو سياسيّة؛ و(ب) النّشطاء الافتراضيّون، يستعملون المعلوماتيّة لنشر المعلومات والتّوجيهات الّتي يصعب نشرها على أرض الواقع؛ و(ج) ”الصّحفيّون المواطنون،“ يشاركون في بثّ المعلومات في الفضاء العموميّ في الشّبكة (Saada, 2013, p. 3).

 

و.إ.رة  + الظّروف الاجتماعيّة = الرّبيع العربي

من المشاكل المطروحة في الدّراسات المفسّرة للرّبيع العربيّ محاولتها صراحة أو ضمنيّا الإجابة عن سؤال من قبيل ”ما الّذي سبّب الرّبيع العربيّ؟“ وهو سؤال كبير جدّا. فهو أكبر من أن يُجاب عنه بالإشارة إلى عامل سببيّ وحيد (الإعلام الجديد). ذلك أنّ الرّبيع العربيّ كان نتيجة ظروف اجتماعيّة كبرى مثل الرّكود الاقتصاديّ والسّياسيّ، والنّشاط السّياسيّ عبْر الحركات الاجتماعيّة، وكثير من القرارات التّافهة من طرف الفاعلين الأساسيّين مثل الأنظمة السّياسيّة. فلو اختلف أحد هذه العوامل اختلافا كبيرا لما كان الرّبيع العربيّ أصلا أو كان اتّخذ شكلا مختلفا (Aday, Farrell, Lynch, Sides, & Freelon, 2012, p. 17).

ويذهب الباحثان ”مانريك“ و”ميكائيل“ إلى اختزال تأثيرات هذه التّكنولوجيّات في العالم العربيّ في ما يلي: (أ) تسهيل الثّورات العربيّة في مصر وتونس؛ و(ب) ربْط النّشاط الرّامي إلى الدّيمقراطيّة قديمه بجديده. وبيّنا أنّ و.إ.رة في ذاتها لا تضمن التّغيير الاجتماعيّ أو نجاح الدّمقْرطة (Manrique & Mikail, 2011).

 

الإعلام الاجتماعيّ أو الإعلام الجديد

الإعلام الاجتماعيّ فرع من و.إ.رة. ويقصد به الأدوات والخدمات المتّصلة بالشّبكة والّتي تمكّن من توصيل المعلومات عبر الأنترنت ومن المشاركة والتّعاون. وأكبر شبكات الإعلام الاجتماعيّ وأكثرها استعمالا وفعّاليّة في العالم العربيّ هي الشّبكات الأربع التّالية: الفيسبوك، والتويتر، واليوتيوب، والتّدوين (المدوّنات الإلكترونيّة) (Storck, 2011, p. 11).

من أكثر و.إ.رة تأثيرا على المجتمعات الحضريّة مواقع التّواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر، إلخ). أَخذت صفة ”التّواصل الاجتماعيّ“ من الطّريقة الّتي تمكّن بها مستعمِليها من التّعامل. وتتراوح تأثيراتها بين العلاقات الشّخصيّة والحركات السّياسيّة. فقد كان لهذه المواقع دور كبير في إسقاط الرّئيس التّونسيّ بن عليّ والرّئيس المصريّ مبارك (Gul, 2014, p. 87).

ولعب الإعلام الاجتماعيّ دورا مركزيّا في تشكيل ’قواعد بيانات‘ سياسيّة في الرّبيع العربيّ. وساعد الإعلامُ الاجتماعيّ على انتشار الأفكار الدّيمقراطيّة في أرجاء العالم (Howard, Duffy, Freelon, Hussain, Mari, & Mazaid, 2011, pp. 2-3).

وعن دور الإعلام الاجتماعيّ في التّعبئة السّياسيّة يقول أحد النّشطاء المصريّين: ”نستعمل الفيسبوك لتنظيم الاحتجاجات، والتويتر للتّنسيق واليوتيوب لإخبار العالم،“ نقلا عن ”ستورك“ (Storck, 2011, p. 4).

على المستوى الشّخصيّ، نرى أنّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ تيسّر استمرار الاتصال بالأصدقاء. لكنّ مستوى الصّداقة المقرّبة قد تقلّص. فمن قبلُ كان للشّخص عدد من الأصدقاء، من بينهم واحد أو اثنان مقرّب/مقرّبان جدّا. أمّا الآن فلدينا المئات من الأصدقاء ولكن لا أحد منهم مقرّب. يُضاف إلى ذلك أنّ زيادة الوقت المخصَّص لأنشطة الإنترنت يدلّ على عدم وجود الوقت الكافي للذّهاب فعليّا لملاقاة الأصدقاء. وهذه الظاهرة منتشرة جدّا في العالم المتطوّر. تغيّر كبير لا نزال نجهل أين سيقودنا (Gul, 2014, p. 87).

لعب الإعلام الاجتماعيّ المعتمِد على الإنترنت (مثل التويتر والفيسبوك واليوتيوب) دورا بارزا في كثير من حركات الرّبيع العربيّ (Aday, Farrell, Lynch, Sides, & Freelon, 2012, p. 3). فالشّبكات الاجتماعيّة تشجّع الأفراد والمبادرات الحرّة، وتحوِّل إلى الخير العامّ ما أراد الآخرون تخصيصه، إلخ. (Mallet, 2013, pp. 116-117).

وسائل الإعلام الجديدة (بما فيها تكنولوجيا الإنترنت والتّكنولوجيا الخلويّة) بدأت في الانتشار في جميع أرجاء العالم، وكان لحديثي السّن الدّور الأكبر في اعتمادها. وقد انتشرت هذه التّكنولوجيّات انتشارا سريعا في الشّرق الأوسط نتيجة للابتكارات الجديدة في ميادين تكنولوجيا الإنترنت والتّكنولوجيا الخلويّة وتكنولوجيا الأقمار الاصطناعيّة (Wiest & Eltantawy, 2015, p. 120).

يُضاف إلى ذلك أنّ الرّبيع العربيّ كان حدثا هامّا لاعتماد وسائل الإعلام الجديدة في الشّرق الأوسط وساعد في تحديد الاستعمالات المناسِبة لهذه التّكنولوجيّات (Wiest & Eltantawy, 2015, p. 120).

تحدّت أحداثُ 2011 (في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا) المشكّكين، من أمثال الصّحافيّ والمؤلّف Malcolm Gladwell والكاتب والمدوِّن Evgeny Morozov، وذلك بإثباتها أنّ شبكات المعلومات والاتّصال يمكن لها أن تكون مسرِّعات قويّة للتغيير الاجتماعيّ. فلا يمكن لمنطقة أو دولة أو شكل من أشكال الحكومات أن يبقى محصّنا من تأثير وسائل الإعلام الرّقميّة على الحركات الاجتماعيّة والسّياسيّة (Stepanova, 2011, p. 2). يمكن أيضا اعتبار استعمال و.إ.رة أساسا ’تقنيّا‘ جديدا لإحياء ظاهرة الحملات الاحتجاجيّة الجماهيريّة اللّاعنفيّة (Stepanova, 2011, p. 6).

 

الفيسبوك والتّغيير الاجتماعيّ

أكبر موقع على الإنترنت الآن هو الفيسبوك ويُزار مرارا وتكرارا مثل زيارة محرّك البحث غوغل؛ ففي سبتمبر 2011، أُثبت أنّ للفيسبوك 800 مليون حساب (أي 10/1 من مجموع سكّان العالم). ومن الطّبيعيّ أنّه أكبر منصّة للتّواصل الاجتماعيّ في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضا. وهذا ما جعله أهمّ أداة اتّصال في أغلب ثورات الرّبيع العربيّ (Alhindi & Talha, 2012, pp. 104-105).

إنّ الجانب الاجتماعيّ مهمّ لفهم أسس الفيسبوك ومختلِف استعمالات منصّة التّبادل هذه. فالتّركيز على الفاعلين الاجتماعيّين ومحاوراتهم يساعد على فهم الكيفيّة الّتي بها يمثّل الإعلام الاجتماعيّ جزءا من حياتهم اليوميّة، وكذلك أيضا الكيفيّة الّتي بها يتشابك المستهلِكون والمنتِجون أنفسُهم في سياقات مختلفة مثل الكون الخطابيّ أو الأوضاع السّياسيّة أو الظّروف الاقتصاديّة أو اللّحظات التّاريخيّة أو الانتشار خارج حدود الوطن (Mallet, 2013, p. 116). وعلى الرّغم من أهمّيّة الفيسبوك، فلا ينبغي أن يُسنَد إليه كلّ شيء.

تتجلّى الفائدة الاجتماعيّة للفيسبوك من خلال تسهيله الاتّصال بين الأصدقاء وأفراد العائلة وزملاء العمل. وهو في هذه الفائدة الاجتماعيّة لا يختلف عن البُرُد الإلكترونيّة أو الرّسائل النّصّيّة أو ببساطةٍ الاتّصال الهاتفيّ. وعلى الرّغم من ذلك فثمّة شيء مّا يجعل من طريقة اشتغال الفيسبوك شيئا فريدا من نوعه ويكشف السّرّ الّذي جعل من الفيسبوك عاملا مهمّا في الشّبكة العنكبوتيّة. فمنصّة التّبادل هذه تمكِّن مستعمليها من اتّصال ذي ثلاثة مستويات: من-واحد-إلى-واحد، ومن-واحد-إلى-العديد، ومن-العديد-إلى-العديد. وإذا كان المستويان الأُوليان ينطلقان من الذّات، فالثّالث (من-العديد-إلى-العديد) أكثر تعقيدا ولا ينطبق على الشّبكات كلّها. هذا المستوى الثّالث من الاتّصال هو الّذي يجعل الفيسبوك خاصّا جدّا. فلا نتشارك مع ”أصدقائنا“ وحدهم، بل مع ”أصدقاء الأصدقاء“ أيضا، وحتّى مع جميع أعضاء الشّبكة الاجتماعيّة، أي الأشخاص الّذين لا يعرفهم المرء. فهذه السّمة الأخيرة جوهريّة لفصل الفيسبوك عن غيره من الشّبكات الاجتماعيّة (Mallet, 2013, pp. 117-118).

من المفيد التّساؤل عن محلّ الفيسبوك في وسائل الإعلام. أنضع الفيسبوك في استرسال وسائل الإعلام الجماهيريّة مثل التلفزيون والصّحف والإذاعة؟ أم نعتبره وسيطا جديدا مندرجا في ”’ويب‘ 2.0“ (منصّة تفاعليّة تشاركيّة للتّبادل والمشاركة والتّحاور وعرْض النّفس)؟ (Mallet, 2013, p. 130).

وعلى العموم فإنّ مساهمة شبكات الإعلام الاجتماعيّ كانت حاسمة بقيامها بوظيفتين مترابطتين: (أ) تنظيم الاحتجاجات؛ و(ب) نشر المعلومات عنها، بما في ذلك إيصال مطالب المتظاهرين للمجتمع الدوليّ.

هذا ويُقال إنّ الفيسبوك قد فاق الجزيرة، على الأقلّ في سرعة نشر الأخبار (Stepanova, 2011, p. 2).

ولئن كانت هذه الشّبكة الاجتماعيّة قد لعبت دورا مهمّا في حمل ”الدّائرة العربيّة العامّة الجديدة،“ فإنّ القنوات الفضائيّة واستعمال الهواتف الجوّالة وتعبئة الأفراد المتفرّقين هي عناصر أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار (Mallet, 2013, p. 129).

 

الهاتف الجوّال والتّغيير السّياسيّ الاجتماعيّ

بالنّسبة للعرب، الهاتف الجوّال ليس للاتّصال الشّخصيّ فقط، ولكنّه جهاز شخصيّ متعدّد الوظائف. فالهواتف الجوّالة بما تزوِّد به من خدمات الرّسائل القصيرة والرّسائل المتعدّدة الوسائط ’MMS‘ والاتّصال بالإنترنت والكاميرا ومشغّلات الـ MP3 أصبحت شعبيّة، وخصوصا لدى المراهقين العرب الّذين كان لهم دور فعّال في نشر خدمات الاتّصال بالجوّال المتعدّد الوظائف. فحتّى الأطفال، في بلدان الخليج، في سنّ العاشرة يملكون هواتف مزوّدة بالبلوتوث.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنّ طبيعة الهاتف الجوّال القائمة على السّهولة تتماشى مع الثّقافة العربيّة، التي تركّز على التفاعل المستمرّ وغير الرّسميّ بين العائلة والمجموعات المحلّيّة. إلّا أنّ بيئات ظهور الاتّصال بالجوّال المدعومة من طرف توزيع النّدّ-للنّدّ لمحتوى الجوّال يكشِف التّوتّر الثّقافيّ الحاصل بين رغبة الفرد والقيم الثّقافيّة والاجتماعيّة، لا سيّما القيم الدّينيّة. فالهاتف الجوّال وتكنولوجيا الاتّصال الجديدة لديها القدرة على تغيير الحياة الاجتماعيّة للبشر (Ibahrine, 2008, p. 259).

يمكن للرّبيع العربيّ أن يسمّى ”ثورة التويتر“ أو ”ثورة الفيسبوك“ أو ”ثورة الهاتف الجوّال“ أو ”ثورة الإنترنت“ أو ”ثورة السّكايپ،“ إلخ، وذلك لأنّ هذه التّكنولوجيّات لعبت دورا أساسيّا في اتّصال الأشخاص بعضهم ببعض ولولاها لما أمكن لهم ذلك (Alhindi & Talha, 2012, p. 101).

ولئن كان الحديث عن تغيير اجتماعيّ مفاجئ حديثا متفائلا جدّا ولا يستقيم أحيانا، فيجب الإقرار أنّ الهواتفَ الجوّالة وانتشارَ استعمال الإعلام الاجتماعيّ في المسائل الاجتماعيّة والسّياسيّة سيكون مصدرا لتغييرات اجتماعيّة ثابتة طويلة المدى. ومن الوهلة الأولى انكبّ النّاس على هذه الأدوات لما فيها من الرّاحة ولما لها من النّجاعة الباهرة، نظرا لاختصارها المسافات وتقليصها الأوقات. فبينما كان تنظيم الثّورة يقتضي سنوات من اللّقاءات الشّخصيّة السّرّيّة في الماضي القريب، نرى اليوم أحداثا مثل هذه الأحداث الّتي نشاهدها يمكن تسييرها في بضعة أيّام (Alhindi & Talha, 2012, p. 106).

قدّم الرّبيعُ العربيّ للدّكتاتوريّين (مثل مبارك وبن على) درسا قاسيا. وكأنّ الشّعب يقول لهؤلاء الطّغاة: ”إن تُوقفوا وسيلة من وسائل الاتّصال فسنتمكّن من إيجاد وسيلة أخرى بديلة.“ مثال ذلك تشويش مبارك لشبكات الهاتف الجوّال في الأطوار الأولى من الثّورة المصريّة تشويشا أوحى بإشارتين عن غير قصد: (أ) أهمّيّة شبكات الجوّال والرّسائل القصيرة باعتبارها أداة مهمّة لتعبئة المصريّين؛ و(ب) إعطاء الإشارة الخضراء للمتظاهرين لاستعمال الأشكال الإلكترونيّة للاتّصال لتعبئة الجماهير. ومن هنا كان انتشار التويتر والفيسبوك (Alhindi & Talha, 2012, p. 107). ثمّ إنّ التّونسيّين تشاركوا صورة البوعزيزي من خلال رسالة MMS وجمعوا النّاس للتظاهر (المصدر نفسه).

 

الإنترنت والتّغيير الاجتماعيّ

إنّ الاستعمالات الجديدة لتنكولوجيا الإنترنت، سواء بمضمونها أو بشكل الخطاب المنتَج أو بطرائق التّبادل، تبدو ظواهرَ اجتماعيّة وطرقَ عيش جديدةً لدى الشّباب. بعض هذه الممارسات تتمثّل في ظواهر اجتماعيّة وثقافيّة قد تثير استنكار المجتمع ومؤسّساته أحيانا. فالإنترنت الآن تغيّر الاتّصال الاجتماعيّ للجمهور الشّابّ المتجمّع في مجتمع الإنترنت. فعلى هذه الوسيلة تُقلَب قواعد اللّعبة الاجتماعيّة والثّقافيّة (Ghazali, 2012, p. 43). وكذلك كان للقنوات التلفزيونيّة الرّقميّة العربيّة الخاصّة دور كبير في الرّبيع العربيّ (Alhindi & Talha, 2012, p. 104).

 

المرأة العربيّة وو.إ.رة

من المفيد الحديث عن الدّور الّذي لعبه النّساء في العلم والتّكنولوجيا عبر التّاريخ وما قبل التّاريخ. فقد كان النسّاء أوّل من اشتغل بالتّكنولوجيا: حيث وضعن الأدوات وأنشأْن طرائق لجمع الطّعام وزرْع المحاصيل الغذائيّة وصناعة اللّباس ومداواة الأمراض... فقد جعل النّساءُ الحياة أسهل وأكثر إنتاجيّة لهنّ ولعائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ والأجيال اللّاحقة. والسّهولة والإنتاج هما الشّيئان اللّذان تقدّمهما التّكنولوجيا اليوم. وإن كان النّساء أوّل التّكنولوجيّين فما الّذي حدث في الشّرق الأوسط، مهدِ الحضارة؟ أغلب النّساء العربيّات اليوم قد عانيْن عقودا بعد عقود من هيمنة المجتمعات الذّكوريّة الّتي همّشت قدرات النّساء الفكريّة والإبداعيّة والرّياديّة، وحرمتهنّ من مكانتهنّ الحقيقيّة في المجتمع. زلّة تاريخيّة تكلّف البلدان العربيّة ثمنا باهظا في وقتنا الرّاهن (Burkhart & Older, 2003, pp. 21-22).

يقول تقرير التّنمية البشريّة العربيّ الأوّل (الصّادر عن الأمم المتّحدة) ”للأسف، فإنّ العالم العربيّ يحرم نفسه إلى حدّ كبير من إبداعيّةِ وإنتاجيّةِ نصف مواطنيه“ (تاريخ صدور التقرير: 2 يونيو 2002 في القاهرة). ”فكيف لمجتمع أن ينافِس في عالم معوْلَم جدّا إن بقي نصفُه مهمَّشا ومهمَلا؟“ (نقلا عن Burkhart & Older, 2003, p. 22). وعلى العموم، فإنّ النّساء في البلدان العربيّة تقدّمن تقدّما سريعا عبر الزّمن. والمنطقة تشهد أسرع تحسّن في تعليم المرأة، لا تُضاهيها في ذلك أيّ منطقة، إذ زادت نسبة تعلّم المرأة بثلاثة أضعاف منذ سنة 1870. وممّا لا شكّ فيه أنّ الأوطان العربيّة تختلف في حقوق النّساء ووصولهنّ إلى و.إ.رة  (المصدر نفسه).

بما أنّ نجاح الاقتصاديّات المبنيّة على و.إ.رة يعتمد بصورة أساسيّة على مساهمة الشّعب كلّه، فإنّ تطوير هذه الاقتصاديّات لتشمل النّساء والرّجال لا يعطي فرصا جديدة للنّساء فحسب، بل يفيد أيضا البلدان العربيّة عموما. فدخول التّكنولوجيا الجديدة في العالم العربيّ يقدِّم وسيلة فعّالة للنّساء لتعزيز مكانتهنّ الاجتماعيّة في المجتمع ولإبراز تقديرهنّ لذواتهنّ بالمشاركة في القوّة العاملة، وهي مشاركة تحتاج إليها المنطقة أيّما احتياج (المصد نفسه، صص. 25-26).

 

الشّباب وو.إ.رة وإعادة التّسيّس

بما أنّ الإنترنت ”وسيلة اتّصال“ ساخنة وتفاعليّة بامتياز فإنّها تُؤثّر في العلاقة الاجتماعيّة أكثر من أيّ وسيلة اتّصال أخرى، وهي بذلك تمثّل الداعم الرّئيسيّ لإعادة تسيّس الشّباب في العالم العربيّ (Ghazali, 2012, p. 43).

ففي عام 2011 اجتمع حوالي 200 مدوّن عربيّ في تونس لمناقشة ’النّشاط الافتراضيّ‘ (Cyberactivisme) والدّور السّياسيّ للشّبكات الاجتماعيّة، وهو أوّل لقاء من نوعه بعد اندلاع ”الرّبيع العربي.“ وهو في الحقيقة الملتقى الثّالث للمدوّنين العرب، وأمّا الاثنان السّابقان فكانا في بيروت 2008 و2009 (Ghazali, 2012, p. 43). كان محور اللّقاء دورَ النّشطاء الافتراضيّين (Cyberactivistes) في مرحلة الانتقال الدّيمقراطيّ. وكان أغلب المدوّنين (المدعوّين في تونس) فاعلين في الثّورات التّونسيّة واللّيبيّة والمصريّة. وكان هدفهم تطوير شبكات التّضامن والتّنسيق والعمل المشترك. كما ناقشوا أيضا انخراط المدوّنين في الحياة السّياسيّة (خصوصا في تونس حيث إنّ سبعة منهم كانوا مرشّحين للانتخابات الّتي تُجرى بعد 10 أيّام) وكذلك دور ”ويكيليكس“ في الرّبيع العربيّ ومصداقيّة المعلومات الدّائرة في الفيسبوك والتّويتر.

وعموما كان فحوى ملتقى 2011 يعني عودة تسيّس الشّباب في العالم العربيّ، بعد أن كان غير مهتمّ بشؤون الدّولة، همّه الأكبر مشاغل أبناء جيله واهتماماتهم البعيدة عن السّياسة والتسيّس (Ghazali, 2012, p. 44).

وكان للإنترنت (وخصوصا المدوّنات) أثر كبير في عمليّة عودة تسيُّس ’Repolitisation‘ الشّباب العربيّ بعد مرحلة من عدم التسيّس ’Dépolitisation‘ دامت عدّة سنوات كان الشّباب فيها منشغلا بالبحث عن المنافذ المهنيّة والنّجاح في سوق العمل، وكان الاهتمام فيها بالشأن السّياسيّ المحض قد ترك مكانه لمشاغل فرديّة أكثر منها جماعيّة.

 

و.إ.رة بين العزلة والاجتماعيّة

بحث ”بولستورف“ (Boellstorff) عمّا يكذّب فكرتي العزلة والانفراد اللّتيْن تُسنَدان إلى العوالم الافتراضيّة وإلى مستعمليها غالبا. فمن خلال بحوثه في ’بناء العلاقات الاجتماعيّة الافتراضيّة‘ (La cyber socialisation) يجد المؤلِّف الجواب. فالذّهاب إلى العالم الافتراضيّ، لدى أغلب الأفراد المندرجين في ”الحياة الثّانية،“ يعني الاتّصال بالأصدقاء. والحقّ أنّ أغلب الأشخاص المبحِرين في مختلِف العوالم الافتراضيّة يبذلون كثيرا من الوقت والطّاقة لتكوين الأصدقاء أو المحافظة على علاقة الصّداقة (نقلا عن Mallet, 2013, p. 119).

ومع تطوّر تكنولوجيّات الاتّصال برز نوع من التحوّل إلى الاجتماعيّة ’Sociability:‘ فما نلاحظه ليس تلاشي التّعامل وجها لوجه أو تزايد عزلة الأشخاص أمام حواسيبهم. ذلك أنّ بعض الدّراسات الّتي أجريت على مجتمعات مختلفة أثبتت أنّ أغلب مستعملي الإنترنت أكثرُ اجتماعيّة، ولديهم أصدقاء كثُر، وأنّهم أكثر نشاطا اجتماعيّا وسياسيّا من غير المستعملين للإنترنت. فكلّما استعمل الأشخاص الإنترنت زاد ذلك من دخولهم في التّعامل المباشر (وجها لوجه) في مجالات حياتهم كلّها (Gul, 2014, pp. 87-88).

ومثل ذلك جديد أشكال الاتّصال اللّاسلكيّ الجديدة –من الاتّصال الصّوتيّ بالهاتف الجوّال إلى الرّسائل القصيرة ’SMS‘ و”الواي فاي“ إلخ– فإنّها تزيد من الاجتماعيّة إلى حدّ كبير، لا سيّما لدى الشّباب والأحداث.

وكلّ ذلك يبيّن أنّ مجتمع الشّبكة مجتمع في غاية الاجتماعيّة، وليس مجتمع العزلة. ثمّ إنّ الأشخاص لا يزيّفون هويّتهم على الإنترنت غالبا، اللّهمّ إلّا ما يكون من بعض المراهقين بدافع اختبار الأشياء وتجريبها (Gul, 2014, p. 88).

 

و.إ.رة قوّة تغييريّة

كان للحركات الاجتماعيّة الّتي ظهرت في الدّول العربيّة سنة 2011 دور بارز في بيان ما لـو.إ.رة من قدرة تغييريّة. فقد كان الرّبيعُ العربيّ بحقّ ظاهرة من أهمّ ظواهر ”التّعلّم“ غير الرّسميّ المعتمِد على و.إ.رة سنة 2011، إذ أدّى بآلاف من الشّباب إلى استعمال وسائل الاّتصال الاجتماعيّة –يصلون إليها من خلال هواتفهم الجوّالة– متّخذين من تلك الوسائل فضاء لاكتشاف الذّات وإثبات الشّخصيّة والاستنكار والشّجْب والتّعبئة للدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والحرّيّات المدنيّة (UNESCO Institute for Statistics, 2013, p. 5).

أضفت ثورةُ و.إ.رة صبغة جديدة على التّكنولوجيّات القديمة. ففي كثير من بلدان العالم، أحدثت الهواتف الجوّالة تحوّلا في جودة حياة النّاس. ووصلت محطّات الإذاعة الرّقميّة الجديدة إلى جمهور كبير بطريقة تفاعليّة من خلال البرامج التّي يتفاعل معها المستمعون عبر الهاتف (Burkhart & Older, 2003, p. 26).

 

و.إ.رة واستحالة الرّقابة التّامّة

حين نُقارِن الإعلام الرّقميّ بالإعلام المطبوع نجد الإعلام المطبوع مراقبا 100% من طرف الدّول، وخلافا لذلك نجد أنّ الإعلام الرّقميّ تستحيل مراقبته تماما من طرف الدّولة (Alhindi & Talha, 2012, p. 104). وللإعلام الرّقميّ حرّيّة التّعبير، لكنّ الإعلام التّقليديّ ليست له لأنّه مراقَب ومرصود من طرف الحكومة (Alhindi & Talha, 2012, p. 104). وهكذا تكون تكنولوجيا الإنترنت قد طمست الخطوط الحمراء الفاصلة بين ما يمكن أن يغطّيه الإعلام وما لا يمكن أن يغطّيه (Robison, 2005, p. 1).

 

و.إ.رة وسلطة المعلومات

من الحقائق المركزيّة في التّجارة والحُكم في بلدان الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا (ش.أ.ش.إ ’MENA‘) أنّ المتسلط يُنشئ سلطته ويحافظ عليها من خلال ضبط انتشار المعلومات.

مثال ذلك الحكومة العراقيّة: فقد كتمت عن شعبها أنّ جيشه اندحر أمام قوّات التّحالف سنة 1991، وذلك من خلال منع انتشار تلك المعلومات في البلد بصور شتّى من المراقبة.

وكذلك رجال الأعمال، فإنّهم يُخفون جميع أنواع المعلومات المتعلّقة بالسّوق وعمليّاتهم فيها.

وكذلك فإنّ كبار السّنّ يكتمون المعطيات عن صغار السّنّ ولا يبوحون بها إلّا عند الضّرورة القصوى.

فسلطة تكنولوجيا المعلومات والاتّصال وقدرتُها على نشر المعلومات بصورة أكبر وأكثر فعّاليّة وعلى الشّفّافيّة في الحكْم والعمليّات التّجاريّة أسباب ليست في مصلحة أغلب النُّخب الحاكمة (Burkhart & Older, 2003, p. 32).

 

الخاتمة

من خلال مناقشة العلاقة بين وسائل الاتّصال الرّقميّة (و.إ.رة) والتّغيير الاجتماعيّ تبيّن لنا أنّ بين المجتمع (العربيّ) والتّكنولوجيا علاقة تأثير وتأثّر. فيمكن اعتبار الرّبيع العربيّ، مثلا، نتاج تفاعل بين عاملين اثنين: (أ) عامل تقنيّ متمثّل في و.إ.رة (الهاتف الجوّال والإعلام الاجتماعيّ، مثل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب والمدوَّنات الإلكترونيّة)؛ و(ب) عامل الظروف الاجتماعيّة (الظّلم السّياسيّ والجمود الاقتصاديّ والتخلّف، إلخ). فلو غاب أحد هذه العوامل لما كان الرّبيع العربيّ أصلا، أو لكان على نحو غير هذا. واتّضح أيضا أنّه يصعب جدّا فصل الإعلام الجديد عن الإعلام القديم، ففي الرّبيع العربيّ قوّى بعضهما بعضا: فبينما كانت الجزيرة (وغيرها من القنوات التّلفزيونيّة الفضائيّة) تعتمد على التويتر وغيره من المصادر الإلكترونيّة، كان الإعلام الجديد كثيرا ما يُحيل إلى هذه الشّبكات التّلفزيونيّة أيضا. ولعلّ من أبرز مظاهر التّغيير الاجتماعيّ لـو.إ.رة ما أحدثتْه على فئة الشّباب؛ إذ حوّلتهم من الانشغالات الفرديّة الخاصّة إلى الانشغالات الاجتماعيّة العامّة، أو بعبارة أخرى نقلتهم من اللّاتسيّس إلى التسيّس الّذي يقتضي الالتزام بقضايا المجتمع. ثمّ إنّ من آثار التّغيير الاجتماعيّ الّذي أحدثته و.إ.رة في العالم العربيّ أن أُشركت النّساء في القوّة العاملة، وفي ذلك فائدة للمرأة العربيّة والبلدان العربيّة على حدّ سواء.

 

.