جدلية العلاقة بين الشعر والفلسفة/// د. يعقوب القاسم اعبيد الله

تلقيت دعوة كريمة من بيت الشعر نواكشوط، للمشاركة في ندوة "مقاربات نقدية" تحت عنوان: جدلية العلاقة بين الشعر والفكر، إلى جانب، أخي الأكبر وزميلي الأستاذ الدكتور الحسن اعمر بلول. فقلت في نفسي، لماذا يتعين علينا معشر الباحثين في الفلسفة أن نعقد حوارات مع الشعراء في عصر المعلوماتية والبيولوجيا الوراثية؟ وفي الحقيقة، فإن عصرنا، أي زمن ما بعد ما بعد الحداثة يتميز بخاصيتين اثنتين:

ـ أولاهما أن هذا العصر، عصر موت الفلسفة وموت الإنسان كما أكدت ذلك فلسفات نقد النزعة الإنسانية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وفلسفة هيدجر ونيتشه، وظهور عصر التقنية والتفلسف بالمطرقة، ومن هنا قد يكون الخوض في جدلية العلاقة بين الشعر والفلسفة اقتضاء يمليه عصر التقنية...

ـ وثانيهما، وهي في الحقيقة مرتبطة بالأولى، هو أن هذا العصر بما كرس من موت للآلهة، ونسيان للكينونة وتذكرها، وانتصار للإبداع التقني والرقمي اللامحدود، والذي اكتسح كل مجالات الحياة أصبح يمثل تهديدا وجوديا للإنسان في عالمه الذي يعيش فيه والذي بنى فيه آمالا عريضة على التقدم العلمي والتكنولوجي، فأضحى أمام شكل جديد من القيم لم تترك مكانا لقيم الجمال في التأمل الفلسفي وكتابة الشعر.   

سنركز في هذه المداخلة على معالجة إشكالية العلاقة بين الشعر والفكر، متسائلين كيف نظر كل من أفلاطون وهايدجر ونيتشه إلى الشعر وكيف كانت علاقتهم بالشعراء؟

وما مدى مشروعية إجراء حوار بين الفلسفة والشعر؟

ما الذي يمكن للشعراء أن يقدموه لنا معشر الباحثين في الفلسفة؟

وهل أفسح عصر التقنية المجال أما الشاعر؟

هل نقصد هنا الشعر كتفعيلات وأوزان وقواف؟ أم نقصد ماهية الشعر كشكل من أشكال التعبير الثقافي؟

وبما أن بداية هذه المداخلة مع أفلاطون والمكانة التي خصت الفلسفة بها الشعر، فكيف يمكن أن نقيم حوارا بين الفيلسوف والشاعر ولو عن بعد؟

وعلى افتراض أننا في بيت الشعر، حيث المثوى العميق لأنطولوجيا الشعر، وأننا د. الحسن وأنا نمثل الطرف الآخر، فهل سيكون هذا النقاش (Dialogue external) حوارا خارجيا، مثل الذي أجراه أفلاطون بين الفيلسوف والشاعر؟                                                                             

فهل إننا سنحس بنفس الإحراج، بلغة هيدجر، الذي أحس به الفلاسفة الأوائل؟ ذلك أننا إذا قبلنا هذا الحوار فإن الفلسفة، والعياذ بالله والتي، صنفت نفسها ضد كل ما هو مقدس، ومنه القول الشعري مع اليونان الأوائل، وذلك إفلاطونيا كان بهدف تأسيس الفكر القائم على التوليد والحجاج والمفهوم، ستجد نفسها بذلك محرجة عندما يكون عليها أن تحاور الشعر؟ "وللتوضيح، فلا نقصد المقدس هنا بمفهومه الفقهي عند المسلمين، ولا بمفهومه التيولوجي في الثقافة المسيحية او اليهودية، بل المقدس كما يتحدث عنه شعراء فكر الوجود الذين نستحضر منهم كتاب الملاحم اليونانية، والمعري وإيليا أبي ماض واغيرهم."

أسئلة لا تنتظروا عليها إجابات، بل مزيدا من التأزيم والتساؤلات.

بداية، نقول إن الشعر شكل راق من أشكال التعبير الثقافي الإنساني، يصف أو يعبر بواسطته الشعراء عن الشعور والوجدان والإحساس، وأداتهم في ذلك اللغة الخاضعة لنواميس وتقنيات هذا الفن. ولذلك ارتبط الشعر بالوجود الإنساني منذ الأزل، وقبل الأسطورة والسحر والفلسفة، في الأزمان الغابرة، ظهر الشعر. إذ يرجع بعض المؤرخين ظهور الملاحم الشعرية الأولي إلى ما قبل 2000 سنة قبل الميلاد في نينوى بالعراق وتاليا إلى 1300 سنة قبل الميلاد في سوريا. لتظهر لاحقا أي 800 سنة قبل الميلاد "الإلياذة" و"الأوديسي" Eliade et Odisée (للشاعر الاغريقي هوميروس)، ثم بعض الملاحم الهندية المشهورة ما بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد، ومن بينها قصيدة تتألف من 24 ألف بيت شعري.

وكما تعلمون، فإن تاريخ الفكر الإنساني أرجع إرهاصات الفكر الفلسفي الأولى لطاليس 649 ق م، سولون الأثيني، 624 ق م، وبيتاكورس، وهيبياس، وأنكسيمانس، وأنكسيماندر، وابروتاغوراس والقائمة تطول. وبذلك فأن هوميروس وهيزيود وغيرهم ومن مبدعي الملاحم الاغريقية تجاوروا فكريا على الأقل، إن لم نقل زمانيا مع الحكماء.

وليس صدفة، أن يحاول بعض الشعراء التفلسف، أو أن تظهر بعض شطحات الفكر الفلسفي في قصائد بعض الشعراء، غير أن ذلك لم يصل إلى حد كتابة الشعر وفقا لمبادئ العقلانية ومناهج المنطق، وربما يعلم رواد بيت الشعر والأدب السبب قبلنا معشر الباحثين في الفلسفة، وهو أن التعبير عن الشعور والوجدان والإحساس بواسطة اللغة الخاضعة لنواميس وتقنيات الشعر، يعتبر نوعا من خلجات النفس التي يدركها العقل دون أن يكون مصدرا لها، على عكس التأملات الفلسفية.

وقد أكد أفلاطون 427 ق م في الجمهورية: "أن الشعر يقود إلى الشعور العميق بالأحزان والآلام التي يعيشها الآخرون، ولذلك، فهو يصغر النفوس ويضعف العزائم ويبعد عن أداء المهام والواجبات، ولا يجب أن يتجاوز الشعر تسابيح الآلهة فحسب".

ولو أن بعض الباحثين أقروا أن أفلاطون أجاز للطبقة الأرستوقراطية في أثينا قرض الشعر، كما أجاز لها بعض الأعمال النبيلة التي يبرز فيها دور الشعر وشأنه بين عامة الناس، إلا هؤلاء اصطدموا بإنكار أفلاطون على هيزيود وهوميروس، وشعراء آخرين أنهم ألفوا وتحدثوا عن خرافات زائفة ذات الصلة بالبشرية. فحسب أفلاطون فعندما يمثل الشاعر طبيعة الآلهة والأبطال بطريقة سيئة، فإنه افلاطونيا مثل الرسام الذي يرسم صورة تختلف جذريا عنما ما كان ينوي رسمه.

هذا هو الشعر، وقد اخترنا عبارات لطيفة خوفا من غضب الشعراء، وفي مقابل ذلك، فإن الفلسفة عند أفلاطون تمثل منهج الحياة القويمة، وفيها تقوم سعادة البشرية جمعاء، إذ من خلالها تكون معرفة "الخير" و"العدل" على أُسس عقلية متينة تؤدي بالفرد إلى بلوغ درجة الكمال في المجتمع. فبالنسبة إلى أفلاطون كلما ازدادت معرفتنا الفلسفية، ازداد فينا النضج العقلي، وبذلك يقل ويضمحل "الشر" من نفوسنا. فعندما نتحدث عن الفلسفة، فإننا نتحدث عما يسمى "بينة الكينونة أو بنية الوجود" وبعبارة أدق، عما يقرر مصير تاريخ الفكر وإقامة الذات المفكرة على كوكب الأرض.

ولذلك، فإن ممارسة التفكير الفلسفي أسمى وأرقى من قرض الشعر، وإن منزلة الحاكم الأعلى في الدولة تليق بالفيلسوف، كونه الأكفأ والأقدر من الشاعر أو السياسي أو غيرهما. ورغم أن أفلاطون نبغ في الشعر الغزلي والتمثيلي وكتب المسرحيات، فضلا عن مشاركته في عدد من المعارك وتعرضه للأسر وبيعه، إلا أنه اعتنق مبادئ أستاذه سقراط (468-399 ق.م)؛ ولذلك فقد فضل الفلسفة على الشعر، أو العقل على الوجدان والقلب.

الظاهر إذن أن أفلاطون قد صنف الشعر في إطار أشكال التعبير الثقافي الشفهية، مؤكدا أمكانية قيام المدينة (la citée) بدون شعراء. وعلى هذا الأساس تحددت مكانة الشعر طيلة عصر الميتافيزيقا وفق مقولة "أحسن الشعر أكذبه"، وحتى قبل نزول الآية الكريمة من كتاب الله العزيز "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".

ويحدثنا تاريخ الفكر عن فلاسفة آخرين كتبوا الشعر كالفارابي (870-950)، وأبن سينا (980-1037) وأبي العلاء أحمد المعري (973-1057) وهو من أكثر شعراء العرب قربا من فلسفة، لا لكونه صاحب نظرية عقلية خاصة، أو منهج فلسفي واضح ومتكامل؛ بل لكونه قد تفلسف في الإنسان والطبيعة والوجود والماورائيات، تفلسفا شعريا مسهبا ومميزا. ولذلك يطلقون عليه لقب "شاعر الفلاسفة" أو "فيلسوف الشعراء". غير أن تقلباته النفسية الحادة، التي تجتاحه بسبب عاهته المستديمة وحظه العاثر والصراعات السياسية المتوالية بين الحمدانيين والبيزنطيين؛ بالإضافة إلى الاضطرابات الفكرية والنزاعات المذهبية بين فرق المسلمين، جعلت فلسفته الشعرية ذات صبغة تشاؤمية قاتمة، سبق فيها فلسفة التشاؤم عند شوبنهاور (1781-1860)، وعدمي أقدم من عدمية مارتن هيدجر (1889-1976) وجان بول سارتر (1905-1980) وغيرهما. استمع إلى المعري في بعض أبياته المتفرقة:

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خرافة يا أمَّ عمرو

نمر سراعا بين عدمين ما لنا    

لباث كأنا عابرون على جسرٍ.

وقوله:

لعمري لقد أعيا المقاييس أمرنا 

فحدسنا عند الظهيرة مظلم

في العدم كنا وحكم الله أوجدنا   

ثم اتفقنا على ثانٍ من العدم

ونود هنا أن نشير والعهدة على الدكتور الحسن، إلى أن الفيلسوف نفسه إذا ما طرق باب الشعر، فإن تأملاته الفلسفية سوف تمتزج بحس وجداني رقيق قد تصبغ أفكاره بألوان مستوردة من خارج التخصص. وهو ما جعل نيتشه (1844-1900) يتدارك ويقول عن موقفه الفكري "التفلسف بالمطرقة"، وذلك عندما أيقن تلكؤ عقله حيال بعض المسائل والمشكلات الفلسفية في إحدى قصائده في كتابه: "هكذا تكلم زرادشت") يقول:

هل أنت طالب حقيقة؟

لا! أنت شاعر وحسب،

تتكلم بالاستعارة والتشابه،

المفعمة شعرا، لا حقيقة لها

غير القناع ذاته،

ما أنت إلا مجنون! ما أنت إلا شاعر!

وفيما يتعلق بالحوار الذي أجراه هيدجر مع الشعر، فسنلاحظ أن جدلية العلاقة بين الشعر والفكر لا تتناول قرض الشعر أو كتابته وما يرتبط بذلك من تقنيات الشعر من بحور وتفعلات وقواف وأوزان فحسب، بل، وهذا هو بيت القصيد-حتى لا نقول بيت الشعر-إنها أيضا تتناول إمكانية عرضه للكتابة والتأمل الفلسفيين.

الظاهر لمن يقدم على مطالعة سريعة ل:

- Heidegger (M), essais et conférences, Tel, Gallimard, 1958.                                         - Heidegger (M), chemins qui ne mènent nulle part, Gallimard, 1962.                             - KELKEL (Arion L.), la légende de l’Etre, langage et poésies chez Heidegger, J-Vrin,     Paris, 1980.                                                                                                                       - Fromend-Henrice (Max), c’est à dire, poétique de Heidegger, Galilée, 1996.                                   - Blanchot (M)، le livre à venir، Gallimard، collection Folio/essais, 1959.

سيلاحظ أن هذه الجدلية سترتبط بحالة نسيان الكينونة، تلك الحالة التي تسببت في تيه الكائن وسط ظلام كثيف شهده عصر التقنية وتغبرت معه المعاني والدلالات وفقدت قيم ومبادئ أبعادها وتأثيراتها في حياة الإنسان على كوكبه الذي عمره وبنى عليه آماله وأحلامه.

ولذلك يقترح هيدجر إعادة طرح أسئلة الكينونة الأساسية التي تحمل البعد الأنطولوجي لميتافيزيقا الكينونة، والتي ترتبط ببقاء الإنسان وحياته في عصر تهيمن عليه التقنية والعقلانية الحسابية (ratiocination) التي كرستها الفلسفة التقنية والعلمية كما يحلو لمريدي هيدجر وإلى جانبنا أبرزهم في موريتانيا.

ويمكث هذا السؤال حسب هيدجر في أعماق ميتافيزيقا الكينونة، في محاولة لربط حاضر الكينونة بماضيها واستحضار مستقبلها المنظور بعيدا عن كل ما له صلة بالتقنية والعلم: ومعنى ذلك حسب هيدجر، أن علينا "كشعراء" من خلال هذا السؤال أن نقيم جسرا تواصليا من خلاله نتحاور مع عصر التقنية لنستجلي، ميتافيزيقيا، مصير كوكب الأرض والإنسان والحضارة في إطار عصر التقنية. وفي الحقيقة فإن إجابة هيدجر لا تغضب المولعين بالشعر، فهو، وحسب ما أكده أحد المهتمين بفلسفته يدعى جويل بالازو Joël Balazut يرى أن "الشعر هو مقام تجلي الحقيقة الأصلية" أو انكشافها «La grande poésie serait pour Martin Heidegger le lieu de la manifestation de la vérité originelle».

وبعبارة أخرى فإن الشعر بالنسبة للفيلسوف الألماني "يقدم الإجابة عن سؤال الكينونة الذي ظل منذ الأزل السؤال الأساسي للفلسفة"، ولذلك ظل هيدجر طيلة حياته شغوفا بهذا الحوار مع الشعر. ولذلك، وحتى في نقده للشاعر الألماني هولدرلين Hölderlin والذي كان هيدجر ميالا لشعره، فإنه لا ينتقده من زاوية النقد الأدبي، بل من خلال موقف المفكر والفيلسوف. وبعيارة أوضح فإن هيدجر لا يسعى من خلال هذا النقد إلى تحويل المحتوى الشعري لنصوص هولدرلين إلى مفاهيم فلسفية، وإنما يختبر "المقام" أو "البعد" لإمكانية التقاء القول الفلسفي والقول الشعري. وقد عبر جان بوفري Jean Beaufret عن هذه الفكرة لدى هيدجر قائلا "إننا نلامس لدى هيراقليدس وبارمنيدس الغرب في مهده وروعته، وذلك لـن الشعر والفلسفة تكمنا يوما ما من الالتقاء في فجر كانت للكلمات دلالاتها". إلا أننا نعثر لدى هيدجر على تصريح جارح مفاده أنه "إذا كان الحوار في البداية ممكنا بين الفكر والشعر، فذلك يعود إلى مصدرهما المشترك، وليس بفعل ميول خاص من الفيلسوف اتجاه الشعر"، كما يؤكد اكريستيان دوبوا Christian Dubois، مضيفا: "أليست الكيونة نفسها هي التي تفرض هذا الرنين الأصلي للغة، سواء كانت لغة هولدرلين أو لغة هيدجر، وذلك من خلال الجمع بينهما من خلال تناغم أصلي؟

الظاهر أن هيدجر، ومنذ الوهلة الأولى يميل إلى الحل عن طريق توجيهنا إلى مسألة البحث في الأصل "الكينونة" الذي هو مبعث التفكير في نقائه.  

لكننا نوكد، لكم معشر الحضور الكريم، وعلى لسان هيدجر، وربما لا يوافقني د. الحسن في هذه، أن وحدة الأصل أو المصدر لا تعني التطابق، بل تعني أن الحوار الذي نحن بصدد إقامته بالعلاقة بالذات في كلا الحقلين.

لقد حاول هيدجر، وربما تعد هذه الفكرة، في رأينا المتواضع أهم ما في هذه المداخلة، أن يحدد "مقام الميتافيزيقا" «lieu métaphysique» من خلال قراءاته لما يسمى بقصائد الأنهار أو القصائد النهرية ويسميها البعد الشعر الانسيابي لدى هولديرلين مثل La Germanie et Le Rhin، أي حيث يتم الحديث بنفس اللغة أي اللغة المشتركة للمفكر والشاعر، وهذا لعمري هو يحدد إمكانية التفكير في قول الشاعر، التي يصفها هيدجر ب "الزمانية الأساسية" temporalité essentielle، ولذلك فإن "قصيدة  Germanie تشدنا نحو الأصل، وتجعلنا نستشعر البداية".

الظاهر أن هذا يعني بالنسبة للدازين Dasein الذي يخوض معركة ضد ذاته ليتحرر من الواقع ويحقق نقلة في رحاب الشعر الذي لم يعد هنا مجرد شكل من أشكال التعبير الثقافي.

فعندما نشر هيدجر سنة 1959 كتابه Acheminement vers la parole وهو مجموعة من المحاضرات حول الكتابة واللغة لدى كل من Hölderlin، Georg Trakl، Stefan George et Novalis، فقد أهدى المؤلف للشاعر الفرنسي René Char الذي التقاه هيدجر وقرأ أشعاره. ويحمل الكتاب على ما أعتقد عبارات الإهداء التالية: pour René Char, en remerciement de l'habitation poétique toute proche au temps des séminaires du Thor . avec le salut de l'amitié

هل يمكن أن نؤسس على ما تقدم ونقول مع المتفائلين إن "الحوار بين الفلسفة والشعر الآن سيفسح المجال أمام حوار يخدم اللحظة الراهنة، وأنه أيضا سيحقق عودة الفلسفة إلى أصلها أي إلى فضاء الشعر، أو بيت الشعر، سبيلا إلى تجاوز الفلسفة لماهيتها كتقنية كما صاغها فكر هيدجر؟

هنالك من سيرد بأن التقنية أصبحت فكرا شموليا وواقعا اونطو-تيولوجيا Ontothéologique تتجاوز الكائن المتناهي المعروف بالإنسان ولا تقيم وزنا لإرادته، لذلك لم يعد المطلب الرئيسي عقلنة القول والفكر والشعر، بل غدا تحريض الإنسان على الطبيعة لبسط السيطرة عليها وتسخير خيراتها لصالحه ولو أدى ذلك الى استنزاف طاقاتها...ولذا أنتج أشياء ربما تعد عديمة الجدوائية عقلانيا مثل الأسلحة الفتاكة. وقبل أن ننتقل إلى نيتشه، نعاود طرح أسئلتنا السابقة يصيغ مختلفة، عسى أن تجد محاولات إجابة من خلال التعقيبات:

ماذا بإمكان الشاعر أن ينفع به الفيلسوف في عصر هيمنة التقنية وسيطرة الكترونيات والسياحة الفضائية؟

ما هي مكانة الشاعر في زمن أبل وغوغل ونوكيا وسيمنس والكاتيل والنازا NASA واسبوتنيك؟

هل يمكن أن نقول إن الحالة التي يعيشها الدرازين، والواقع الأنطولوجي، والتيه الذي تعيشه الذات هي أشياء كلها تجعل الحوار بين الشعر والفلسفة مسألة حتمية في عالمنا الراهن؟

هل يمكن لهذا الحوار أن يرسم خارطة طريق لعالم جديد تنعدم فيه أي علاقة بين الميتافيزيقا من جهة وبين الفلسفة واللغة والشعر والفن من جهة أخرى؟

ألا يمكن أن نقول إن جدلية الفلسفة والشعر تحث الميتافيزيقا على تذكر الكينونة التي تم نسيانها من قبل الميتافيزيقا نفسها؟

 ألم تتناسى الميتافيزيقا ذاتها الحقيقة-الكينونة، لا نتحدث هنا عن الحقيقة-الكينونة بوصفها موضوعا للمنطق أو المنهج، بل الحقيقة من حيث تم التأمل فيها وقرضها من قبل المفكرين-الشعراء مثل برمنيدس وغيرها من الكتابات التي ولدت قبل الفكر الفلسفي كما كان أفلاطون يدرسه في الأكاديمية؟

وإذا ما انتقلنا إلى Friedrich Nietzsche نيتشه 1844 – 1900 -إذا كان في الوقت بقية-فسنلاحظ أن علاقة الفلسفة والشعر ستأخذ منحى آخر، حيث أن نيتشه قرض الشعر وكتب العديد من القصائد، وفضل الشعر أحيانا كثيرة على الفلسفة من حيث قدرة الشاعر على سبر أغوار المعاني والدلالات.   وبمطالعتنا لبعض مؤلفات نيتشه، التي نذكر منها:

  1.  Homère et la philologie classique, leçon inaugurale «Sur la personnalité d'Homère» prononcée le 28 mai 1869 et imprimé aux frais de Nietzsche fin décembre.
  2. Le Drame musical grec, conférence donnée le 18 janvier 1870 à Bâle
  3. Socrate et la tragédie, conférence donnée le 1er février 1870 à Bâle
  4. La Conception dionysiaque du monde, 1870
  5. Sur l'avenir de nos établissements d'enseignement (conférences)
  6. Cinq préfaces à cinq livres qui n'ont pas été écrits, 29 décembre 1872) :

I. — La Passion de la vérité                                                                                                 II. — Réflexions sur l'avenir de nos établissements d'enseignement                                        III. — L'État chez les Grecs                                                                                                  IV. — Le Rapport de la philosophie de Schopenhauer à une culture allemande                   V. — La joute chez Homère

  1. La Naissance de la tragédie ou Hellénité et pessimisme (Première édition 1872. Deuxième édition : 1886, avec la préface Essai d'autocritique
  2. Un mot de nouvel An au rédacteur de l'hebdomadaire 17 janvier 1873)
  3. Appel aux Allemands, (octobre 1873, non publié)
  4. Cours de rhétorique, trimestre d'hiver 1872 - 1873
  5. Vérité et mensonge au sens extra-moral, inachevé,
  6. La philosophie à l'époque tragique des Grecs
  7. Considérations inactuelles :

I. — David Strauss, l'apôtre et l'écrivain, 1873                                                                II. — De l'utilité et des inconvénients de l'histoire pour la vie, 1873 (traduction française sur Wikisource)                                                                                                III. — Schopenhauer éducateur, 1874                                                                            IV. — Richard Wagner à Bayreuth, 1876

  1. Humain, trop humain. Un livre pour esprits libres, 1878)
  2. Opinions et sentences mêlées
  3. Le Voyageur et son ombre
  4. Aurore. Pensées sur les préjugés moraux 1881
  5. Le Gai Savoir «la gaya scienza», 1882)
  6. Ainsi parla Zarathoustra. Un livre pour tous et pour, 1885
  7. Par-delà bien et mal. Prélude d'une philosophie de l'avenir, 1886)
  8. Généalogie de la morale. Un écrit polémique, 1887
  9. Le Crépuscule des idoles, ou comment philosopher à coup de marteau, 1888
  10. L'Antéchrist. Imprécation contre le christianisme, écrit en 1888, publié en 1895)
  11. Ecce homo. Comment on devient ce que l'on est, 1888)
  12. Le Cas Wagner
  13. Nietzsche contre Wagner
  14. Fragments posthumes

سنكتشف أنه قبل أن يكون فيلسوفا، فإن نيتشه كان باحثا في اللغة، وشاعرا، وملحنا. الظاهر إذن أن نيتشه اللغوي والشاعر، استفاد من وضعه كشاعر في مؤلفات غدت من أهم ما أنتجته العقلانية الغربية على مر العصور.

فإذا ما تحدثنا عن "هكذا تحدث زرادشت"، سنجد أنه الكتاب الذي أنتج أكبر ضجة في عالم التصورات والمفاهيم، علاوة على أن البعض نظر إليه بوصفه نصا شعريا أولى من الاهتمام للإبداع اللغوي والزخرفة وجمالية النص أكثر مما أولاه للمحتوى الفكري والفلسفي، الأمر الذي جعل الفيلسوف الألماني الأكبر يتنبأ بأن لا أحد في ألمانيا سيفهم ذلك الكتاب في عصره.

الظاهر أن نصوص صاحب التفلسف بالمطرقة لا تخلو من مسحة أدبية، هي التي حدت بالدارسين لفلسفته الى البحث عن "نيتشه الشاعر" في الكثير من مؤلفات الرجل وتحديدا " Humain trop Humain" إنساني مقرط في إنسانيته وكتاب "Ecce homo" "هذا هو الإنسان" وعنوانه الصحيح في الترجمة الفرنسية  Comment on devient ce que l'on est.

فيلسوفنا إذن، بات شاعركم معشر رواد بيت الشعر، فقد بدأ منذ نعومة أظافره في قرض الشعر واستمر على ذلك حتى بعد ان اختلت موازينه العقلية وغدا يهذي يوما كاملا، في أغلب الأحيان وحتى مات. (و لا نريد هنا -لا سامح الله- أن نقول إن ناموس الشعر لا يحضر إلا خلال نوبات جنون الشاعر).

يذهب بعض الدارسين إلى أن التفلسف بالمطرقة، فلسفة القوة، فكر التعالي، تأملات التفرد، كلها حالات عقلانية تتناسب مع الشعر-الفلسفة لدى نيتشه، مؤكدين أن الطبيعة والإنسان لا بد للتعبير عنها من الجماليات، سواء كتبنا في ذلك شعرا أم تأملات فلسفية. 

ويعود البعض إلى السيرة الذاتية التي كتبها نيتشه نفسه، مشيرين إلى أنه قرر وهو لم يبلغ بعد ال15 من عمره أن يكتب كل يوم قصيدة...

ولنستمع إلى نموذج من شعره لا أعتقد أنه من أجمل ما سمعتم من الشعر:

هذا الواعد بالحقيقة…

لا هادئة، مجمدة، مسطحة، جليدية،

يصبح حكيما مثل،

صورة تحولت إلى رب، لا يقف أمام المعابد،

حارس الرب :

لا! عدو هذه التماثيل الفضائل،

في البيت في الأماكن البرية أكثر من المعابد.

وقد اطلعنا ونحن نعد هذه المداخلة على ذكر لكتاب صدر في 19 يوليو 2019 يحمل عنوان نيتشه، شاعرا، لمؤلفه جاك لرايدير، تحدث فيه بإسهاب عن شعر فيلسوفنا، حتى حصل لدينا اليقين بجدية الحوار بين الفلسفة والشعر حتى لا نقول أهمية تجاورهما، ومن هذا الكتاب قرأت هذا النص لنيتشه:

 "يا إلها صلبا من الصخور العنيفة،

من يحب أن يظهر، صديقا، بجانبي،

أخبرني بخطوات النسر المهدد

والطوفان الذي يطمح إلى إنكاري.

في كل مكان الاندفاع نحو الموت تصطك له الأسنان

يطلق صفير الرغبة القاسية لكي تأخذ الحياة!

يا إلهة ثابتة، لها أنحني وأتأوه

ورأسي بين ركبتي

إنها فقط لشهرتك إذا كنت

أصغ للحياة، الحياة، الحياة بلا كلل!

مرة أخرى نشكر القائمين على بيت الشعر نواكشوط، ونشد على أيديهم أن تحملوا الانصات والمتابعة لكل هذه الثرثرة، قبل أن نرجع الكلام إلى أصاحبه، نحن على يقين من أن الأسئلة كانت أكثر من محاولات الإجابة، ومع ذلك بإمكاننا أن نقول إن الحوار بين الشعر والفلسفة، مسألة حتمية في عصر التقنية، عصر تيه الكينونة عصر ضياع الإنسان بين الالكترونيات...نتوقع تعميقا وافيا لهذه المقدمة من الحضور الكريم بدء بالأخ الأكبر د. الحسن أعمر بلول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.