إنها رحلة تليدة مضنية يتناقلها الرواة صاغرا عن كابر، ويتذاكرها المتظرفون في مجالس السمر، وبلاطات الساسة والخلفاء، وتحفظ سرها أوراق الكنانيش، لتصبح يوما مادة لبحث، أو عنوانا لكتاب.
تأتي تلك الرحلة نقطة تحول عتيدة في حياة الشاعر، فيألف من الأشياء ما كان ينفر منه، ويستلذ الألم وهو الذي يعاني الأرق والهم، ويتعلم تلوين الصورة بألوان الطيف، بعد أن كان يرسمها بالأبيض والأسود.
إن هذه الرحلة الوجدانية مس من جنون، أو طيش بعد تعقل، أو إصابة من ساحر عليم؛
وما أجمل ما عبر عنها أبو صخر الهذلي حين يقول:
أَمَا وَالَّذِي أبْكَـى وأَضْحَـكَ، وَالَّــذِي ** أَمَـاتَ وأَحْـيَـا، وَالَّـذِي أمْــرُهُ الْأَمْــرُ
لقد كُـنْــتُ آتيهَا وفي النَّفْسِ هَجْرُهَا ** بَـتَـاتًـا لِأُخْرَى الدَّهْـرِ، مَا طَلَعَ الْفَجْرُ
فَـمَـــا هُـــوَ إلَّا أنْ أَرَاهَـــا فُـجَــاءَةً ** فَـأُبْـهَــتَ؛ لَا عُــرْفٌ لَــدَيَّ وَلَا نُكْــرُ
وَأَنْسَى الذِي قَــدْ كنتُ فيهِ هَجَرْتُـهَا ** كَـمَـا قَـدْ تُـنَـسِّي لُــبَّ شَــارِبهَا الْخَمْرُ
هي ذات الرحلة، ونفس المس الذي أصاب عليا بن الجهم فلقنه أبجديات الشعر، وألهمه تلوين الصورة، وهو الذي ألف في سالف قوله المناظر الكالحة، والبيئة القاسية، فما هي إلا رحلة إلى بغداد، وأيام تَمَشٍّ على ضفة دجلة، يراقب الأوانس غاديات رائحات، حتى يطوف به طائف الهوى فيوقظ لديه شغب اللغة فيجهر بالقول:
عُيُــونُ الْـمَـهَـا بَـيْـنَ الرُّصَافَـةِ وَالْـجِسْـرِ** جَلَـبْـنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أدْرِي وَلَا أدْرِي
أَعَـــدْن لِـيَ الشَّـوْقَ الْـقَـدِيــمَ وَلَــمْ أَكُـنْ ** سَلَـوْتُ، وَلَكِـنْ زِدْنَ جَـمْـرًا عَلَى جَـمْـــرِ
وَقُـلْـــنَ لَـنَـــا: نَـحْــنُ الْأَهِــلَّـــةُ؛ إنَّـمَــا ** نُـضِيءُ لِـمَـنْ يَـمْـشِي بِـلَـيْـلٍ وَلَا نَقْـرِي
ورغم تطور وسائل الاتصال ووسائطه في العصر الحديث، فإنها لم تزد عصرنا هذه الرحلة إلا تعقيدا وبُعْـدَ مَـرْفَأٍ؛ فالشاعر نزار قباني الذي شد أسباب السفر، وكان سندباد الموانئ، لم يستطع الوصول إلى مبتغاه، ولا أوفى إلى طِلْبَتِهِ، بل ظل متخطفا بين المراكب والأشرعة، جواب آفاق:
زَيْـتِـيَّـةَ الْعَـيْـنَـيْنِ لَا تُغْلِـقِي ** يَـسْـلَـمُ هَـذَا الشَّفَــقُ الْفُسْتُـقِي
رِحْلَتُنَا فِي نِصْفِ فَـيْـرُوزَةٍ ** أَغْـرَقَـتِ الـدُّنْـيَـا، وَلَمْ تَغْـرَقِ
فِي جُـزُرٍ تَبْحَثُ عَنْ نَفْسِهَا ** وَمُـطْـلَـقٍ يُـولَــدُ مِـنْ مُطْـلَـقِ
مِـنْ ألْـفِ عَـامٍ وَأنَـا مُـبْحِـرٌ** وَلَـمْ أصِلْ وَلَـمْ يَصِلْ زَوْرَقِي
وتأتي رحلة الشاعر الموريتاني محمد ولد إمام محملة بمواجع المحبين، ممهورة بنكهة محلية لا تخطئها العين.
إن أوراق عشقه تكشف سيرته الأولى، فهو يأتينا نذيرا ناصحا بين شوقٍ وشوقٍ، لقد خبر رحلة الحب، فأهاب بكل من تُسَوِّل له نفسه اعتناقَ الرحلة، أن يَتَعَقَّلَ وَيَتَرَوَّى؛ فالطريق صعب، والمورد جدب؛ هكذا تتتالى الأوامر والنواهي في مفتتح النص: (اربط- استبق- ابعد)، كيف لا؟ والشاعر القديم في الحب يعطينا ثمرة تجاربه وخلاصة رحلاته:
ارْبِـطْ عَـلى قَـلْــبِــكَ واسْـتَـبْـقِــهِ ** وابْعُــدْ عـن الحُـبِّ وعـن طُـرْقِـهِ
يَـا نَـظْــرَةً مِـمَّـنْ بِـتِــذْكَــــارِهَـا ** لَـــمْ تَــــذَرِ العَــقــــلَ ولـمْ تُـبْـقِــهِ
يُـكَـــذِّبُ الــرَّائِي لَـهَــا نَـفْــسَــهُ ** ويُـظْـهِــرُ الـتَّـنْهِــيــدَ مِـنْ صِدْقِــهِ
إِنْ بَـسَـمَــتْ أَبْــدَتْ لَــهُ لُـؤْلُــؤًا ** يَـكَــادُ يَــذْهَـــبُ سَــنَـــا بَــــرْقِـــهِ
مَـا لِـفُـــؤَادِي والهَـــوَى بعْــدَمَا ** شَــابَ، وَأَوْهَـى الـدَّهْـرُ مِنْ ذَوْقِهِ؟
وَلَّــى مُـحِــبُّـــــوهُ وَأَحْــبَـــابُــهُ ** وَدَهْـــرُهُ الــزَّاهِـــرُ مِـنْ عِـشْـقِــه
لَــمْ يَـبْـــقَ إِلَّا أَحْــــرُفٌ مُــــرَّةٌ ** يَـنْــثُــرُهَـا شَــوْقًـا إلَى شَـــوْقِـــهِ!
فِي الْمَرْءِ طَبْعُ الشَّوْقِ لَا يَمَّحِي ** فِي خَـلْـقِــهِ يَـبْـــدُو وَفِي خُــلْــقِـهِ
لَكِـنَّــهُ يَـــأْمُـــــلُ مِــــنْ رَبِّــــهِ ** مَـا يَـعْـجِـــزُ اللِّــسَـانُ عَـنْ نُطْقِهِ
وَيُـحْـسِــنُ الظَّـنَّ لِـمَـا قَـدْ رَأَى ** مِـنْ لُـطْــفِـــهِ بِـهِ وَمِـنْ رِفْــقِــــهِ
لقد أذهلته سمرة اللمى وذهبت بعقله، وأوهت قواه البسمة اللؤلئية ونصاعتها البرقية، فظل قعيد الوصل المستحيل حتى تقدم به العمر وأرهقه الانتظار، عندها لجأ إلى الأوراق ليكتب سفره الخالد، ويَدَّكِرَ ويتذكر مآله المحتوم، ثم يؤوب إلى ربه طالبا العفو والمغفرة.
إنه عاشق قديم يدخل سجل الخالدين ممن سبقوه، فعرفوا لوعة الحب، و صوروا باللغة المجنحة والصورة الآسرة، مرارة الحرمان، وأسفار العشق.
نعم، إن الشاعر العاشق هو من كتب الحياة سفرا، وعانى مواجعها دهرا، فترك لنا تلك الأهازيج التي ننعم بترديدها، وَنَحِنُّ إلى مزيده.