.."أحيانا لا تكون الحقائق على قدر التوقعات؛ تكون متباينة تماما، مشتتة ومتنافرة.. أحيانا تأخذنا الحياة إلى مدار آخر قد لا ينتمي إلينا، لا نحسه، لا نشعر به، لانجد ذواتنا فيه.. ومع ذلك نستمر ونستمر.. آآه!" ..وهي تضغط على حروف الكلمة الأخيرة مرسلة زفرة وشهقة كبيرة، كانت تتذكر لحظات قديمة من حياتها حين كانت الحياة تشبه الحياة!.. مرت تلك الذكريات سريعة أمامها، مثل شريط قديم باهت الألوان، كانت عشرينية -يومها- أيعقل أن الزمن مر هكذا - بكل هذه السرعة - تلك المشاهد مازالت طازجة في عقلها !
مازالت مرتبة بعناية مثل مناشف الفنادق!.. كانت فتاة معتدلة القوام، دقيقة الملامح، في وجهها شيء من الجمال ممزوج بفتنة من نوع خاص؛ النوع الذي لا تدركه قبل أن تغوص في تفاصيل حديث طويل وجلسة مجنحة.. كانت شغوفة بالحياة، مبتسمة، يانعة، تجاوزت مراحل الدراسة بكل سلاسة -تقريبا- لم تكن متفوقة، ولا مجتهدة.. وبالمقابل لم تكن متكاسلة، ولم تختبر الرسوب -أو السقوط- كانت تمسك العصى من الوسط - دائما - دون أن تجازف أو تخسر، وكانت تكره الخسارة كثيرا، ولا تعطي كل شيء !..
مرت فترة التخرج، وكان عليها أن تختار أعذارا جديدة؛ لتبقى عزباء مقنعة!.. الجارات يتحدثن عنها كثيرا - خصوصا بعد زواج صديقاتها المقربات - ظلت تتهرب من أسئلة أمها وتتجاهل الصديقات، وفجأة؛ أصبحت وحيدة تعتزل الجميع وتتهرب من السؤال الأزلي: "انت ماطرا فيك شي؟!"
كانت تجادل نفسها باستمرار: لماذا يربطون كل شيء بالزواج؟!!.. أنا فتاة ناضجة يمكنني أن اتزوج متى وكيف ما أشاء !
- لا أريد أن أتزوج فقط لأن الجميع يريد ذلك !..
قالتها وهي تنظر في مرآتها؛ مستعدة للخروج، وعند الباب لمحت جارتها قادمة، فنظرت باتجاهها وكررت بصوت مضحك تحاكيها فيه: انت ماطرا فيك شي؟! ثم ضحكت ومضت في سبيلها، َوتركت الجارة العجوز تتمتم: بائرة مجنونة !
تجاوزت دكان العجوز محمد -صاحب القلب العطوف - كانت تسلم عليه في طريقها - كعادتها دائما - مثل جميع أبناء الحارة الذي نشأوا تحت كنفه فلا شيء يوقف نهر عطفة الجارف، ولا طعم يفوق طعم حلواه اللذيذة، التي يصنعها بيده - من مسحوق السكر والصمغ العربي ونكهة التمر الهندي - ويوزعها بكل حب على جميع الأطفال تلك الحلوى تلخص تاريخ الطفولة لديها؛ كباقي فتيات الحي، ولكن هذه المرة لم تلق التحية على محمد !.. كان ذلك الرجل الخمسيني يجلس أمام دكانه، يوقف سيارته الفارهة -نسبيا- ويجلس ممسكا سيجارته، يحملق في المارة.. وما إن لمحها - كعادته - حتى وقف وهو ينظر إليها بعينيه الجائعتين؛ يلتهمها بهما ويتمتم لها بصوت خافت: ماذا يتقصني لتوافقي على الزواج بي؟!.. أنا أحبك فعلا وسأنقذك من هذا الفقر، ساجعلك ملكة ! قاطعته: لو لم يبق من الرجال إلا أنت ما وافقت عليك !.. ضحك - في ثقة - ورفع حاجبيه وقال لها: ستقبلين، وستركعين لي؛ وقريبا أيضا !!.. كانت كلماته - ونظراته - كفيلة بتغيير مزاجها وإرجاعها للبيت، وعند الباب كانت مريم تنتظرها، شاهدتها - وهي تجري الحديث مع الرجل - وبادرتها بالسؤال: لماذا عدت؟! قريبي في البنك تعب ليجد لك هذه الدورة، عسى أن تجذبي انتباههم وتعجبيهم فيوظفوك !.. ردت عليها - في استنكار: لماذا يا أمي دائما تتوقعين أنني لن أنجح لأي سبب سوى شكلي؟! لا أريد أن أعجب أحدا أنا سأضع بين يديهم خبرتي ومعرفتي، ولهم الحكم، أما شكلي فلو كنت أريد به التوظيف لصرت راقصة، أو مغنية.. وتعرفين أن صوتي جميل رخيم ! (قالتها وهي تضحك) فتمتمت أمها: إذا قارناه بصوت المعزاة فهو جميل جدا !
- أمي لماذا تحبطينني دائما؟!
التفتت إليها الأم بجدية:
- بدل الوظيفة والغناء؛ لماذا لا تقبلين الزواج بالشيخ؟! إنه رجل غني ميسور الحال كل النساء يتمنينه صهرا؟
- أمي ماذا تعرفين عنه - سوى كونه نزل بحينا حديثا واشتري ذلك المنزل وبدأ بتجديده - ماذا لو كان مجرما أو بلا نسب؟!
- استغفري ربك !.. هو رجل شريف معروف، ولا يعيبه شيئ، وبصراحة؛ بعد تسريح والدك من العمل، وتخرجك أنت صرنا في حاجة لمن يساعدنا، دعينا ننتهز هذه الفرصة قبل أن تخطفه منك فتاة أخرى أيتها الحمقاء !
لم تكن فاطمة تستمع لأمها بإصغاء تام.. كانت تنظر في هاتفها وتفكر: لماذا يغيب عني كل هذا الوقت؛ أسبوعان من الزمن ألا يكفيان ليتم سفره ويجتمع بأهله ويشبع منهم؟!.. لماذا لا يرسل رسالة واحدة لحبيبته التي تنتظره بكل هذا الشغف؟!.. لماذا الحب متعبا هكذا وكيف تملكتني هذه المشاعر فجأة دون موعد، حين اختار قلبي أن يصغي لمحمود؛ ذلك الشاب الثلاثيني الغامض والحنون المرح.. جعلني أعيد ترتيب مسلماتي وأولوياتي.. صحيح أننا لم نلتق - واقعيا - ولكن قلبينا حلقا - معا - في عوالم الحب، وهاما كحمائم السلام.. وفجأة - وهي تنتظر رسالة منه - رن إشعار رسالة من صديقتها الحميمة سعاد:
- سلام فطوم، كيف حالك؟
- هلا؛ بخير !
- أنا قادمة؛ هل أنت في المنزل؟.. لدي خبر مهم لا يقبل التأجيل !
- أهلا بك، أنا في انتظارك ! عجبت للأمر الغيبي، وتسمرت مشدوهة من طبيعة الخبر العاجل وماورائيته المستترة.. فسعاد لا تزورها إلا لخطب جلل !.. ذهبت إلى غرفتها ورتبتها قلبلا في انتظار صديقتها بريد القدر المخفي !
.....
دخلت سعاد، وآه من تلك اللحظة؛ حين رأت ملامح وجهها الكسيرة والحانية، كانت تسبقها للغرفة، ثم جلست وطلبت منها أن تغلق الباب وفعلت، ثم خيم الهدوء لحظات؛ قبل أن تخرج سعاد هاتفها بيد مرتعشة، وهي تبادر رص كلمات المواساة: لا تحزني يا صديقتي؛ فكل الرجال خونة، كلهم كاذبون.. مخادعون.. يسرقون قلوبنا، ثم - في لحظة واحدة - يحطمونها ويتركوننا للعذابات.. هذه صورة وصلتني من صديقة لديها صديقة مشتركة مع عروسه !..
- مهلا من تقصدين؟! ثم ابتلعت دهشتها وخطفت الهاتف من يد صديقتها وتأملت الصورة.. نعم؛ إنه هو، هل يعقل هذا؟!.. محمود تزوج غيري - وبكل بساطة؟! وأحست لحظتها أن الكون يضيق وكأنها عالقة في فوهة زجاجة فارغة ملقاة في المحيط !.. وغابت لحظات عن وعيها لتنتبه على صوت سعاد: فاطمة مابك؟!
ابتسمت في إعياء، وقالت: لاشيء، لم يفاجئني كثيرا، كانت أحلامي كبيرة جدا، أكثر مما ينبغي لفتاة فقيرة -مثلي- قاربت الثلاثين من عمرها، وكبرت علي انتظار الفرص، مافعله بي متوقع - جدا - كيف سيتغلب على مجتمعه ويتجاوز كل الحدود؛ ليكون معي؟!.. ذلك السيناريو يا صديقتي لا يوجد إلا في القصص والأفلام، لكن كنت أستحق منه اعتذارا -أو شرحا على الأقل - لينهي علاقتنا الافتراضية باحترام يبقي به على شيء من الود والتفهم !..
..كانت تلك الصدمة كفيلة بأن تجعل فاطمة تدخل في دوامة من الاهتزاز الذاتي والوجداني جعلتها تفقد الثقة في نفسها وفي كل شيء !.. كانت والدتها ترقبها - في صمت - وهي تلاحظ شحوب وجهها وانكسار روحها دون أن تعرف السبب !.. كانت تتظاهر بابتسامة مزيفة أمام الجميع بمن فيهم جاراتها اللواتي يتهامزن ويتغامزن كلما رأينها ذاهبة لدوامها في البنك الذي لم يسلم من نظرات المتحرشين والطامعين، وكانت النهاية مع ذلك المدير السمين الذي حدثها مرة بجرأة كبيرة عن رغبته في الزواج منها - سرا - مقابل عقد عمل رسمي مما جعلها تبصق في وجهه وتترك البنك - بعدها مباشرة - وتعود لرحلة البحث عن دافع جديد للحياة !
..مرت الأيام رتيبة مملة، كقطرات ماء تسقط بتثاؤب من صنبور قديم !.. روتين يومي لفتاة تحاول الحياة رغم تكالب كل الصعاب !!
كانت بداية ذلك اليوم كفيلة بأن تقلب حياتها رأسا على عقب حين دق عمال البنك الباب وهرولت فاطمة لتفتح، فبادروها بالسؤال: هل هذا بيت محمد سالم؟
أجابت - وهي تنظر إليهم بغرابة: نعم؛ ماذا تريدون؟ فأجابها أحدهم - وهو يعطيها ورقة بيضاء: هذا أمر بإخلاء المنزل - خلال خمسة أيام - أو تسديد الرهن، هذا المنزل كان رهنا للبنك ولم تسددوا القرض؛ لذلك أصبح من ممتلكاتنا !
كان دماغها يستقبل الكلمات -بسرعة - دون فهم، وبدأت تستوعب المعاني، وهي تدخل المنزل - حاملة إنذار الإخلاء - وتنادي: أمي، أمي.. تعالي ! ..ودخل الجميع في دوامة من الحيرة والترقب: ماذا سنفعل؟!
قال لها الوالد الوقور - وفي عينيه دمعة عصية على السقوط، ووجهه العتيق يخفي تفاصيل عمر من الكدح والحزن كان يستعيد الزمن بذاكرته المتعبة: آه لو عاد بي الزمن لما أخذت ذلك القرض المشؤوم؛ كنت أظن أن ذلك المحل سينجح وأسدد المبلغ من مرتب التقاعد.. ولكن كان للشركة رأي آخر، حين أعلنت استغنائها عن خدماتنا، وفصلتني - مع العشرات - دون اي حقوق أو تعويض، وبقي المحل يصارع الديون ويحاول الصمود في وجه متطلبات الحياة القاسية.. كان يفكر بكل طريقة ممكنة لإنقاذ منزل العائلة لكن في كل مرة تغلق الأبواب أمام ناظريه: ثلاثة ملايين أوقية؛ ياله من مبلغ صغير - ساعة صرفه - وياله من مبلغ كبير - ساعة تحصيله - آآآآه !.. نطقها بصوت عال - وهو يحاول جمع فضفاضته والنهوض بجسمه النحيل دون أن يعرف الوجهة - وفي الطريق كان صاحب الدكان محمد ينتظره مستفسرا عن الجماعة التي رآها عندهم، وبطبيعته الفضولية استل جميع الأجوبة من ذهن محمد سالم الشارد بتفكيره، وغادره وهو قلق على مصير هذه العائلة الطيبة التي يكن لها كل الحب ولكن ماذا بيده ليفعل؟!!.. كان الشيخ سعيدا وهو يسمع بخبر منزل أهل محمد سالم ومهلة البنك الذي شاع في الحارة، وكان يستدرج الجميع؛ ليعرف كل جديد، وقرر ذلك المساء أن يستغل الظروف لصالحه، و تأنق كثيرا ثم ذهب لمنزلهم ودق الباب، فكانت فاطمة تستقبله، وفي مناورة استباقية بادرها بابتسامته المراوغة: كيف حالك يا فاطمة؟! والدك هنا؟
أجابت - ببرود: نعم؛ تفضل !..
هنا.. دخل الشيخ، وجلس في الصالون.. ودار بينه وبين محمد سالم حوار بطَعم العَرض الأبيض:
- الشيخ: جئت في أمر خير؛ أطلب منك يد الآنسة المصون فاطمة، وأتمنى أن تقبلوني؛ فأنا - كما تعرفون - رجل لدي اسمي ومكانتي ووظيفتي.. سأحقق لفاطمة كل أحلامها، وسأكتب المنزل المجاور لكم باسمها وأسكنها فيه ..
كان الأب - العاجز - يفكر في عرض الرجل السخي بغرابة كبيرة، ويتساءل: لماذا هذا التوقيت بالذات؟ هل يعرف قضيتنا؛ أم أنه القدر يحيك لنا خيوط الخلاص من هذه المشكلة العصية؟!!.. وانتبه ليسمع كلمات الرجل الواثق، وأجابه - بسرعة: القرار في النهاية لفاطمة؛ سأسألها - هي ووالدتَها - ونرى المناسب !
غادر الشيخ، لتدخل مريم - بسرعة - على محمد سالم، وتقصفه بمئات الأسئلة المبعثرة: ماذا يريد الشيخ؟ وماذا قال؟ وماذا؟ وماذا؟..؟؟
ثم دخلت الأم على فاطمة وقبل أن تنبس ببنت شفة بادرتها فاطمة بقولها: موافقة !
تلك الكلمة التي استطاعت أن تنقذ العائلة من التشرد، ولكنها حطمت قلب فاطمة، حين ضحت بسعادتها لأجل عائلتها !
.. سرت الأمور بسلاسة - أيام الزفاف - وملايين الشيخ كانت كفيلة بسداد القرض - على دفعات - وانتقلت لمنزله دون أن يكتبه باسمها !
كانت السعادة بادية على الجميع، والكل يتحدث عن عرس فاطمة، وكيف كان صاخبا وباذخا !!.. كانت - وحدها - فاطمة تعاني حين يبتزها الشيخ بعباراته السمجة: هل ترين؛ لقد صرت لي، واشتريتك بمالي - كأي واحدة تتوق لها نفسي - أنا لا أحبك؛ أنا - فقط - أريد أن أكسر كبرياءك أيتها الحمقاء، هل تظنين أنني سأهبك منزلي؟! تلك كانت مجرد خدعة - بسيطة - يكفي أنني انقذت لك - ولعائلتك - منزلكم الخرب !.. كانت تكلفة عنادك باهظة جدا !!
مضت الأيام باردة، ومملة.. كانت فاطمة جسدا بلا روح، وكانت كالوردة الذابلة؛ كسيرة القلب، هائمة العقل.. وكم هو صعب أن ينكسر كبرياء أنثى حين تسرق منها الحرية وتسلب الحب !..
.. ظل الشيخ يحاصرها في المنزل، ويدقق في كل تفاصيل حركاتها وسكناتها.. وصار بخيلا معها؛ لا يوفر لها أبسط الأشياء والحاجيات، فكانت تقضي طول النهار في منزل أهلها؛ ترعى والديها، وتقضي مع زوجها المالك ساعات من العذاب - ليلا - وهو يتقلب بجانبها كالثور الهائج، ويشخر؛ مزكما أنفها بنفسه الكريه، مقلقا نومها بكوابيسه المزعجة التي تقض مضجعه - كل ليلة - دون أن تعرف سببا لها؛ سوى أنها توحي بحياة زاخرة بالمغامرات والعنف!
ودون سابق إنذار بدأ الشيخ يغيب الليالي، ويتحجج بالعمل والأسفار الوهمية؛ لتكتشف - بعد فترة - أنه تزوج بنفس الطريقة ابنةَ حارة لا تبعد كثيرا عن حارتها !.. وحين سمعت القصة ضحكت كثيرا، ثم بكت - في مرارة - على حالها وخانها التفكير وانعقد تركيزُها فقررت أن تقطع الدهشة بال اتصلت عليه لتستفسر لكنه بادرها بقوله: نعم؛ تزوجت أخرى، وللأمانة: انت لم تكوني زوجتي الوحيدة؛ لدي أم أولادي وهي في الريف، ولا علم لها بـشيء، وداعا يا فاطمة؛ كانت قصتنا جميلة.. فلْتنسَي اسمي، فهذه هي النهاية؛ أنت طالق!
عادت إلى الواقع؛ تنظر في الأفق البعيد، وتتحسس بطنها - وهي في شهرها التاسع: تُرى ماذا ينتظرك يابني?! وأنت لا تعرف شيئا عن والدك الذي باع المنزل واختفى؛ كفص ملح ذاب في الماء !