"المائيون...ولأنني منهم فليسَ بدٌ من أن أقول شيئا!"/// داوود جا التيجاني

 

 

"لا تكتب الشعر ،إلا إذا شعرت أنك ستموت إذا لم تكتب

راينر ماريا ريلكه

.

 

 

ممّا لاريبةَ فيه ولا شكَ أنَّ كبادَ امتثلَ هذه المقولة وتعصبَ لها كثيرا حدَّ أنه يلفظُ أنفاسهُ عندَ أعتابِ كلِ نصٍ ويدخله جثةً هامدةً ليسَ فيها سوى مجازاتٍ وتساؤلاتٍ وقلقٍ ،وكثيرٍ من الشعر.

لقدٔ كانَ راديكاليًا وقاسيًا مع نفسهِ جدا ،ومعنَا كقراء ،لم يتح لنا فرصةَ قراءتِه بسطحيةٍ كما نفعلُ مع الجرائدِ اليومية ووكالاتِ الأخبار ،ونصوصِ النظم العادية ،لقدْ خلخلَ كل الثوابتِ التي كنَا نتبناها في قراءةِ نصوص الشعر ،وشَذبَ التعريفاتِ المستسلِمةَ والمهادنةَ والبريئةَ والتي من ضمنها (أن الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى)

كباد قال لنا شيئا غيرَ ذلك ،وحمَّلنَا من تعريفاتِ الشعر ما قاله ابن عربي :(الشعر تكثيفٌ لأحاديث المارة).

لقد كثفَ أحاديث المارة ،وذهب أبعدَ من ذلكَ ليُخمنَ ما يكنُه الصلصالُ وما يوَده الماء ممَّا قد لا يبوحُ به لغير الصحارى ،أو للمنتمين له أزلا ،نحن المائيون:

مُذْ أَنْ تَوَارَى صَدًى لِلمَاءِ فِي دَمِنَا

وَنَحْنُ مِنْ رَجْفَةِ الصَّلْصَالِ نُرْتَـشَفُ

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلِدَ الأَشْيَاءُ أَسْئِلَةً

حَيْرَى تُؤَوِّلُنا ضَاقَتْ بِنَا النُّطَفُ

أَمْعَنْتُ فِي وَجَعِ الأَحْجَارِ أَحْضُنُهُ

مَا وَحْدَهُ "مشَلِينَا" ضَمَّهُ الجُرُفُ

 

لمْ تكن التفاتتهُ إلى مشيلينا الضالعِ في أحضانِ "الكهفِ" مجانيةً أو منْ قبيلِ الاجترارِ والاستدعاءِ المؤقتْ، بل كانت صرخةً كبرى ضد العدم وانحيازًا عارمًا للإنسانِ منذُ توقيعه على ميثاقِ (ألستُ) إلى تجاوزه ل(انيادارتاليته) إلى انفجار لبنان!

هو انحيازٌ كليٌ للطينِ...

مُــكَــابِــداً أَلَــمـاً للِطِّـيـــن يَــدْفَــعُـنِــي

لِـــللاَّرُجُـــوع، فَــلاَ أَحْـتَـــاجُ لَــوْنَ غَـــدِي

مَـعْـجُــونَــةٌ قَـسَـمَــاتِـي بِـالتُّــرَاب، وَلَــٰـ

كِــن لاَ أَرَى أَثَــرَ الآتِــي عَـلَـى جَــسَــدي

....

لقد قالَ البيروفي ماريو بارغاس يوسا مرة إنَ الكاتب يقرر في أول جِلسةٍ له هل سيكون كاتبًا رديئا أو جيدا ،ومن باب التنكيت ذكر ماركيز أن كاتبا شابا تحول إلى بائع للسياراتِ المستعملة.

وما أكثر أن يتحولَ الكتّاب والشعراء في هذه الأرضِ إلى تجارٍ، أو باعةٍ للجلود المدبوغة ،ذلك أن أسئلةَ الكونٍ لم تشغلهم، وأن الانفجار البدئي لم يطلهم، ظلوا غرباءَ عن حواسهم، غرباءَ عمَّا يشغلُ كباد من قضايَا وما يؤرقهُ من هموم!

لقدْ قرر في أولِ مجموعةٍ له (المائيون) ألا يعتادَ على الكونَ مطلقا وأن يظلَ موقفه متسائلا وحائرا كالأطفال ،وألا يكون كاتبا رديئا ،بمعنى ألا يكون" مغنيَ القصر" ولا اتروبادورا متجولا!  

 

وَمُـثْــقَـلٌ بِـالأَسَــاطِـيـــر الَّـتِـي كُـتِـبَــتْ

    فِـي اللاَّشُـعُـور، وَمَا ضَمَّـتْ مِنَ الْـفَـنَد

 

هذا الاحتجاجُ البادي في هذا البيتِ ،وهذا المنهج الديكارتيّ في إعادةِ قراءةِ المسلماتِ ،وإحداثِ ارتجاجٍ في اللاوعي هو مالا مناصَ منه في أية محاولةٍ لكتابة الأدب الجيد ،إنه (الشرط الانقلابي )الذي دعا إليه نزار قباني والذي اعتبره شرطا أساسيا في الكتابة ،واعتبر الكتابة من دونهِ مجرد استنساخٍ وثرثرة وشيءٍ من تصديةِ ومُكَّاء!!

العالم ما عادَ بحاجةٍ إلى الشاعرِ الصدى!

وجميعنا نعرفُ أن لكباد صوتًا شعريًا هاربًا منْ الجلبةِ وما هوَ كائن من الشعر، إنه صوتٌ غير معادٍ ولا مكرور، صوت هادئ كملامح كباد وعميقٌ كملامحه أيضا ،صوتٌ منهمكٌ في الفلسفة ومشغولٌ بالتساؤل!

 

يَا أَيُّهَا الزَّمَنُ الغَرِيبُ أَلَسْتَ تَكْبُرُ مِثْلَنَا

أَوَ مَا تَعِبْتَ مِنَ المقَامْ

أَفَلَا تَشِيخْ

لِنَكُونَ ذَاكِرَةً

وَتُودِعُنَا حَنِين السَّابِقِينَ

فَنَسْتَعِيدُ طُفُولَةَ الأَشْيَاءِ

 

إنَّ زمن الذاكرة ،كما يقول ياسوناري كواباتا ليس مثل الزمن العادي ،فليس لدى الذاكرة زمن بعيد أو قريب ،قد ننسى حدثا مرّ بنا البارحة ونتذكر آخرَ كان منذ سنواتٍ بعيدة، وزمن الشعر أيضا غير الأزمنة الأخرى.

زمنُ الشعرِ نفسي كزمن السُجناءِ والمرضى والمحكوم عليهم بالإعدام، إنه غيرُ الزمن التاريخي الذي قد يمرُ دونَ أن نشعر ببعضهِ ،أو أن نبديَ اعتراضًا على سيرهِ المتباطئ ،أو خطاه التي لا تريمْ!

كانَ شاعرُنا مشغولا بمحاججةِ زمنه النفسي ،وتَواقًا إلى الانسلالِ منهُ والعودة إلى الزمنِ النيئ ،زمن الطفولة والأشياء والبدءْ!

 

أَفَلَا تَشِيخْ

لِنَكُونَ ذَاكِرَةً

وَتُودِعُنَا حَنِين السَّابِقِينَ

فَنَسْتَعِيدُ طُفُولَةَ الأَشْيَاءِ

 

كانَ الشاعر أوابًا إلى (المنطلق) دائما إلى الثيمةِ الخالصةِ للديوان إلى (المائيون) كلمَا أحسَ أنهُ يُفَوِّتِهمْ  آبَ وقال شيئا عنهم مرافعًا عن قِيمهم عن الطينِ اللازبِ فيهم عن رائحةِ الحمأ والقديمِ والسابق!

القديمُ في الإنسانِ هوَ البراءة، والنصوع من الإثم ،هذا طبعًا قبل الحروبِ والدم والسطوِ على تفاح الجنة وانفجار لبنان!

وليسَ خليقًا بالمائي سوى أن يظلَ كما هوَ وألا يسقط في فخاخِ ما تميعهُ الدنيا وما تدعو إلى الحرب!

 

وَمِمّا تَقُولُ الرِّيَاحُ

عَنِ الوَجَعِ المُحْتَوِي

نَبْضَ هَذِي الصُّخُـور

حَكَايا

تَغَلْغَلَ

فِيها

صَدَى قَلَقٍ لِلْخَمَائِل

...

وليسَ شعرًا أنْ نذَرَ تفاوتَ التجربةِ في ديوان "المائيون"

فقد كان شاعرنا ميالا إلى الحريةِ والتجريب ،وراغبًا عن (حرية الضباب) فإنَ في الضباب حرية على حد تعبير كافكا ،لكنها حرية معتمة قد تبلغ حدّ الاصطدام بخميلة أو دوسِ عشِ عصافير يتيمةٍ ،وهذا ما لا يليق بالشعر!

ففي الشعر سُكنى أفسح من ذلكَ وهيَ التجريب الذي لم يخلُ منه البتة كتاب (المائيون)

فكلُ زيارةٍ للنص هي زيارة بدئية مقلقة ،لكنَ الرهانَ يظلُ قائمًا مادام في مقدورِ الشاعر أنْ يتخلصَ من ذكرياتِ الزيارة الأولى ومتاعبها ،مكثفا حضوره المعرفيّ ومتخففا من حمولاتِه السابقة ،آتيًا بشيء لم تبلهُ الفكرة الأولى ولا الرؤية الفائتة!

هُنًا دخل كبَاد جسدا عاشقًا وشاعرًا منسيا ك(ككنيسة مهجورة) إذ يقول:

 

هَجَرَتْنِي مِنْ دُونِ ذَنْبِ رَبَابِي

فَتَنَامَى الحَنِينُ فِي أَهْدَابِــــي

 

وَ ظَنَنْتُ الزَّمَانَ صَحْوًا يُنَاغِي

فَأَذَاقَ الحَشَا فَظِيعَ العَذَابِ

 

إنه يرافع عن زجاجِ قلبهِ بنفسِ اللغة التي رافع بها عن الطين ،ولكن ليس بذاتِ الرؤى ولا بذات الشعر!

إنّها لغة الزجاج الشفافة ،لغة الأضاليع المكوية ،لغة الخلخالِ المسموعة ،كلما حركت امرأة ردفَها انبعث منها الشعر!