اتخذ العائدون من البئر سبيلهم سَرَبًا إلى الظل، و اتقاءً للقيظ اللافح، و لم يكن في الساحة الواسعة بين الأكواخ المهترئة و الخِيم المتناثرة إلا ذلك الجسد العملاق المكبَّل من كل أطرافه، كلُّ أهل القرية كانوا داخل الأكواخ هربا من شمسٍ صيفية حارقة. وحدَه العملاق المكبَّل كان يواجه الشمس بشَرَاسَةٍ و صبر لا نظير لهما، لم يكن عليه من الثياب إلا ما يستر عورته المغلظة، كانت أطرافه الأربعة مشدودة بحبال قوية و هو ملقى على ظهره تحرقه تراب كالمَلَّة حرا و تلفه وجهه الشمس، في ذلك السموم تَمَلمَل قليلا، و كأن خاطرة عابرة خطرت بذهنه فترجمها إلى حركة - بقدر ما يتيسر – لأطرافه المشدودة إلى أطناب غائرةٍ، مُنغَرزَةِ في كبد الأرض، زاد تمَلمُله و كأنه أحس فجأة بقيوده و بالشمس التي تلفح وجهه. حاول، لا إراديا، أن يمد يمينه لاتقاء الشمس، لكنها استعصت عليه، حاول أن يحرك يسراه فأبت أن تتزحزح عن مكانها لشدّة الحبل و قوَّة الوتر الغائر في عمق سحيق، حاول أن يتحرك كله فإذا القيود تحفه من كل جــانب، زأر كالأسد الجريح، و ما هي إلا لحظات حتى كان أربعة قد تحلقوا حوله، جلس الأول على صدره العاري الخشن، و بدأ الثاني حشوَ فمه بالتراب و الحشيش، بينما تشاجر الثالث و الرابع لأن الأخير كان أَرَقَّهم قلبا و كان يريد بإخلاص أن يفك أغلاله، و في الأثناء نجح الثاني في إسكاته بملء فمه من العشب، و عادوا سراعا إلى الظل تاركين ذلك الجسد الضخم عرض لشمس قاتلة .
لم تمض إلا دقائق حتى استطاع العملاق أن يأكل العشب و يستأنف زئيره المخيف، و هذه المرة أيضا عاد الأربعة الذين أتوا من قبل، لكن المسؤول عن إسكاته يئس هذه المرة من إسكاته بحشو فمه، و تواصلت في الوقت ذاته معركة الثالث و الرابع .
في الأثناء بدأ الذين ظلوا داخل الأكواخ، في غفلة عارمة عن معاناة العملاق، يخرجون لمراقبة المعركة في بُحبوحة الساحة، و بدأ الصخب يعلو، و بدأت تتشكل دائرة كبيرة حول المعركة، كانت بين الحشد وجوه بريئة لأطفال و مراهقين ذوي فضول، و قليل من العدوانيين ممن يستمتعون باضطهاد الإنسان، و مرَّ ذلك اليوم صاخبا و طويلا، و لم تنته المعمعة إلا بعد أن بلغ العملاق من التعب الإعياءَ الذي يمنعه حتى من الكلام، و جَفَّ حلقُه و تلاشى ريقُه و جلس منه الموت مجلسَ القابلة، قبل أن يغيثَه مقيدُوه بشربة ماء، أعادت إليه الحياة و إن لم تعد له الصحة و النشاط، ثمَّ خدَّره الإعياءُ حتى أسلمه إلى غَطيطٍ يتخلله أنين .
و في الليل تهامست ساكنة الأكواخ بما حدث في الساحة الكبيرة، أما أعيان القوم و الملأ من الأشراف فكانوا على رأي زعيمهم لولا أصوات قليلة عارضته مستنكرة ما كان، و كان أغلب الحديث حول قضية العملاق، فالذين على رأي الزعيم يرون أن تقييد العملاق مصلحة للجميع و لا بد منها، و كانت القلة ترى غير ذلك، و وقفت تدافع باستماتة عن تصرف الرجل الذي تجرأ بمحاولة فك قيود العملاق، و كادت النقاشات تفضي إلى عراك بالأيدي لولا الوشائج الكثيرة، و المصاهرات التي بينهم، و نامت القرية على شَرخ في الرؤى، و خَرقٍ في جماعتها يستعصي على الرتق .
في اليوم التالي، و ما إن كانت الشمس رأدَ الضحى حتى عَمَّ القرية خبرٌ طوى الساحة طيا و دخل كلَّ كوخ، فقد استطاع العملاق أن يحرِّر يمناه من قبضة القيد و الكيد، و لم يستطع عشرة من الأقوياء أن يعيدوها إلى مكانها، و عادت الدائرة الكبيرة، و انقسم الناس بين راحم للعملاق و ساخطٍ حانقٍ عليه، و في طرف المتحلقين سأل طفل بريء من أطفال الحي "لِمَ شُدت أطراف العملاق هكذا؟ و ما ذنبه؟ فأجابه آخر قائلا إنه "وُلد مكبلا و مشيئةُ السماء أن يبقى كذلك" يردّ طفل آخر كذبت: بل إن أباك هو من قيّده و عذَّبه، أخبرتني بذلك جدتي .
و انقطع حديث الأطفال أمام صخب منبعث من مركز الدائرة البشرية التي تمور مورا، كان العملاق قد أوغل في القوم و أسقط منهم عشرين بيمناه، و شيئا فشيئا ازداد الراحمون له و لأنفسهم و اشتبكوا مع القوم حتى أعانوه على أن يخرج من قمقمه و ينتفض انتفاضة عظمى عمت الآفاق و سارت بها الركبان، و جلس و عينه في عيني مقيِّده يسأله حقَّه غير منقوص.