في الباص، حيث يلتقي الجميع ببساطتهم وعفويتهم؛ بعنادهم، وخلافاتهم؛ بأضدادهم وأشباههم، بالجميع وبلا أحد؛ كان طلبة جامعيون من كليات متفرقة، في إحدى رحلات العودة الطويلة، إلى المدينة. في البدء لم يكن هناك حديث يُدار بعمومية، كانت فقط دردشات منفردة أو ثنائية، و منخفضة. ثم، شب حديث عن السياسة لم يدرك أحد بدايته. تضاربت فيه الآراء والأصوات بنبرات الرضا والسخط. الجميع يكيلون بقاموسهم العادي والعامي، التهم، أو التمجيدات للسلطة. و يصرون على وجاهة ذلك في نظرهم، الذي ينعتونه بالموضوعي حينا و بالواقعي حينا آخر. بالحقيقي والأكيد، رغم السلبيات، وبغض النظر عن بعضها هنا وهناك. ينسحب أحدهم لقِصر نفَسه في النقاش، وآخرُ لبلوغ محطته تاركا صدى حديثه ورأيه الذي يكرره عند باب الباص ويؤكد عليه، ليستأنف البقية عنه. "الجميع متساوون ههنا، ويجب أن يظلوا كذلك ويستفيدون من بعضهم البعض، والأيام دول بينهم." عقب طالب يجلس في الوسط، كانت هذه إضافته الثالثة على طول الرحلة. وعقب زميل له: "لا، ليسوا كذلك، هناك مستفيدون من العامة، يستفيدون بجشاعة لا يتركون معها فرصا للآخرين. كل الفرص يستبقونها لأنفسهم ومحيطهم العائلي. والأغلبية الساحقة من الشعب مشغولة في طوابير المواد الغذائية! إنها كارثة!" " و لذلك يجب أن نتحرر من أدران القبيلة، وننبذ التفاضل والمحسوبية، ونحارب الرشوة، كي نعيش بمساواة بين الجميع. على أنهم مواطنون، من دون اعتبارات أخرى!" هكذا عقب عليه زميل في الباص يقف بغير اعتدال قُبالته. لم يستبقِ الموضوع غير القليل من الطلاب الذين بدوا منشغلين بأنفسهم وهواتفهم. أما الكثيرون فقد شاركوا بجهد، متحدثين كانوا أم منصتين ومنتبهين يسجلون موافقتهم ورفضهم على كل الآراء. اتفق الجميع على أن أحلامهم المغرية لا يمكن أن تتحقق في ظروف كهذه، والذين يأملون أن تتحقق أحلامهم يأملون قبل ذلك التغيير أو الاغتراب في سبيل تحقيقها. "المجتمع بداية بالعائلة، يقف ضدنا. والدولة لا توفر لنا إمكانيات معيشة رغدة. فنحن مزاحمون بأجناس لا تنتهي من القيود، والعقبات." قالها طالب بنبرة حرقة وحزن. لم يعقب عليه أحد بسرعة. تركوا لتلك اللحظة مرورها المُر! ثم، عقبت طالبة من بين أخريات:" إنكم لستم مثلنا، نحن أكثر عرضة للتضييق، وفي أبسط أبسط أحلامنا، ورغباتنا. أنا عن نفسي محظوظة جدا، أنني استطعت أن أستكمل دراستي حتى الآن! ومن يدري، غدا قد يقرر الجميع أنه لا يجدر أن أدرس بعد الآن!" اشتكت من ذلك بأسف، و وقفت إيذانا للسائق بدنو محطة نزولها. سكت الجميع عن الموضوع، وواصلوا بخصوص التعليم: "إنه أساس محنتنا اليوم، لن نتقدم مالم يكن ذلك بفضل مدارسنا، وجامعاتنا ومعاهدنا." أردف طالب آخر، من غير الذين كانوا يتحاورون. وبدا الجميع مشدوهين نحوه؛ قبل أن يستأنف أحدهم كلامه: "نعم؛ إنه فعلا أمر مهم وفارق في حياتنا اليوم. الذين حرموا من التعليم، ولازالوا يحرمون منه، بفعل المناهج السخيفة واللاعملية، هم أبناء هذا الوطن. وغدا سيكون فراغا مالم يتداركوه ويوجدوه بشكل وطن بحق، مثلما الجميع!" " الأمر كل الأمر اليوم في الحرية. أن نحظى بحياتنا التي نريد." مرر طالب آخر كلامه متجاوزا موضوع التعليم. فواجهه زميل له: "لا! ليس الحرية. بل أن نمتثل لتعاليم ديننا. إننا ضائعون بفعل التخلي عنها، ولو أننا نعود إليها لتحسن حالنا بكل تأكيد." أنهى كلمته بثقة، فعقب الجميع على الاثنين بعبارات الاكتفاء من السياسة. بدت على وجوه الكل رغبة بالغة في أن ينتهي الحديث عند ذلك الحد، حتى لا يدخلوا مشادات ومتاهات هم في استغناء عنها. تحدر النقاش بشكل رتيب إلى أن عاد إلى قضايا عمومية أخرى، أشبعوها بالتعاليق والردود. وقال طالب تبدو على وجهه سمات الفكاهة: "الحل في الثورة!" بدأ الجميع يستعيذون بصخب من الشرور، ويذكرونه بالشعوب الأخرى التي تتحارب بلا هوادة. وتمتم طالب لم يكن من الحاضرين بكثرة وهو على كرسيه: "الثورة؟ ولم لا! لم لا؟" كان هو الوحيد المتبقي بعد الجميع في ذلك الباص الذي كان يلقي الطلبة على الرصيف كقطع النرد، حتى أصبح فارغا. ألقاهم على الرصيف يعودون إلى بيوتهم، يعيشون واقعهم الذي لا يحاورونه في غير ذلك الباص. إذ هم منشغلون بمحاورة دروسهم ومحاضراتهم، وعائلاتهم، وأصدقائهم عن أشياء أخرى تساعدهم على أن يبقوا منسجمين معه أكثر. نزل هو أيضا في محطته، وترك الحديث ليكمله السائق مع باصه. لم يعد يعنيه ما يحدث داخل ذلك الباص الفارغ مثل علبة جعة. تركه مثلما تركه الجميع الذين حملوا أسئلتهم خارجه جثثا رَدَموها، عند أول خطوة داخل محيطهم الخصوصي..