"العمارة 510"....قصة قصيرة/// محمد محمود محمد البشير

ككل صباحات حي العمارة 510 كان صيدو  يستيقظ باكرا يسابق خيوط النهار الأولى متجها إلى مقهاه الصغير(تنغانا) ليعيد ترتيب الطاولات و كؤوس القهوة ويرتب البيض المتراص كطوابق عمارة الخيمة وسط العاصمة نواكشوط، وما هي إلا ساعات حتى يعج المكان بساكنة العمارة الراغبيين في تناول إفطار لذيذ على طريقة صيدو، فمنهم من يفضل الأومليت والقهوة الساخنة، ومنهم من لا يسكت  صرير بطنه سوى ساندويش الفاصوليا والكثير من الفلفل الحار. 

يتجمهر عدد كبير من شباب العمارة هناك ويتبادلون أطراف الحديث في كل ما جائت به شبكة "الموجب" فأحيانا يأخذهم الحديث إلى المجتمع والسياسة، وعن كون كورونا مجرد مؤامرة إمبريالية على الشعوب المقهورة كما يقول الداه الملقب بتوماس سنغارا، الشاب الثوري المتقد بشرارة التمرد، القادم لتوه من مدرجات الجامعة يحمل حنقا كبيرا على المنظومة وعلى الطبقة الحاكمة، إذ كثيرا ما سعى إلى تحريض ساكنة العمارة ليثوروا على مالكها، فأسعار  الإيجار -حسب تعبيره- غالية جدا، والهدف الأوحد منها هو امتصاص طاقات الطبقة العاملة والعاطلة عن العمل والسعادة، ومراكمة رأسمال كبير في الجانب الآخر الذي يمثله مالك العمارة.

أما  موسى تراوري الذي طالما كان يفتتح صباحات الغرفة رقم 7 بصيحات Enrico macias في أغنيته الشهيرة je quitte mon pays  فلم يكن يهمه إقتحام هذه الأحاديث الساذجة بنظره بقدر ما كان يركن إلى تنمية حلمه الأبدي بالهجرة إلى أوروبا الحلم، وبالتحديد إلى فرنسا، منطقة مرسيل حيث يقيم أغلب أبناء عمومته الذين وصلوا إلى هناك عن طريق الهجرة السرية، فتحسنت ظروفهم الإقتصادية والنفسية، غير أن عائق هذا الحلم الآن يتمثل في جمع المال والبحث عن فرصة لهجرة غير شرعية. 

لم يكن موسى تراوري القادم من غامبيا يرى نواكشوط غير محطة من محطات الطريق إلى فرنسا، أرض الحريات كما يصفها دائما...
ويبدو أن هذا الأفريقي الأسمر مسكون بحب فرنسا حد أنه علق في غرفته مجموعة من الصور لقادة ومفكرين فرنسيين كبار، أمثال شارل ديغول و الفيلسوف جان بول سارتر، ولطالما كانت تسكن  وجدانه  الموسيقى الفرنسية كلاسيكية كانت أو حديثة، غير أنه مؤخرا بات له ميول فني إلى الموسيقى الموريتانية وذلك لفرط ما كان يستمع إلى تجليات ديمي المنبعثة من مذياع أم سيد أحمد في غرفتها الغامضة التي لا ينبعث منها في العادة أي صوت غير شنشنة الطبخ، وقد حدث مرة أن صادف أم سيد أحمد وهي تغني لديمي "هيماني هيمانيه" فلم يستطع أن يتمالك نفسه فأسر إليها مهرطقا "لو كان لهذه الأرض أن تحظى بنبوءة من السماء لكانت ديمي نبية الحب والسلام إلى سكان هذه الرقعة من إفريقيا".

لم تكن أم سيد أحمد تستوعب شيئا مما يتفوه به موسى تراوري وذلك للكنة في لهجته الحسانية وعمق في مضمون حديثه، فكانت ترد عليها متهكمة "أنت ذ ال اتكول شنهو يعطيك سيمام!".
بينما كان يرد عليها بضحكة بريئة لم يهتك النفاق والتصنع طفولتها، ثم ييمم وجهه صوب غرفته ويرتمي في أحضان سكرة حلم الهجرة ورائحة عطور فرنسا المنبعثة من خياله.

***
مساءٌ مغاير لكل مساءات صيدو اتراوري المعتادة في مقهاه الصغير(تانغانا)، هذا المساء حماسه أكبر من أن تحمله مساحة المقهى الصغيرة جدا كمعتقلات الوعي السياسي المسمات عندنا أحزابا، ما يفرح صيدو لا علاقة له بالمكان الآني ولا الزمن اللحظي، زمن نواكشوط البائسة.

هذا المساء تلقى أفخم خبر كان ينتظره على أحر من الجمر، لقد إستكمل إجراءات الهجرة السرية إلى أوروبا، وغدا سيجمع ما تبقى له من ذكريات ومتاع بانواكشوط العاصمة متجها صوب انواذيبو، آخر محطاته في موريتانيا- الطريق إلى الحلم.

لم يستطع صيدوا أن يكتم كم المشاعر السعيدة التي تجتاحه الآن، وأحس بشيء يحثه للحديث إلى أحد من سكان العمارة.
تذكر أن أم سيد أحمد امرأة "خوراجة" تتقن فن الحديث بلا سبب.

دلف العمارة يتصفح أبواب الغرف متجها صوب الطابق الثالث،  حيث تسكن أم سيداحمد، غير أنه صادفها على السلالم نازلة هبوط من حكم عليه بتوه بجرم الخطيئة الأولى.
 تصفحت وجهه المتهلل فرحا مستغربة بشيء من التغافل كعادتها وبدأت بتركيب جملها المعتادة: أهلا صيدو؛ اشكيف الحال وياك لباس، شتعدل هون عن محلك؟ 

رد صيدو بشي من  الحسانية التي أصابها عطب أزمة التواصل بين مكونات مجتمعات هذه الأرض: جئت أخبرك أنه قد تقرر سفري الموعود إلى أروبا، غدا أحط الرحال مساء بانواذيبو، على أهبة الاستعداد للخروج من جحيم إفريقيا.

ردت أم سيد أحمد بصوت متكاسل وثقيل""ياك مانك ماشي في ذي القوارب الصغيرة ال شفت أنا يجي فيها الحوت؟ ذوك والله ما تمشي فيهم يدنك ترجع فوحده من اشباك البحارة" 

ضحك  صيدوا ضحكا خفيفا  أردف بعده أن أبناء عمومته كلهم وصلو إلى الجانب الآخر من العالم، إلى أوروبا الجنة عبر هذه الزوارق وهو  ليس بدعا منهم وكذلك كانوا يفعلون.

عم الصمت المساحة بينهما لثوانٍ ثم أكملا طريقهما نزولا مع السلالم.

على عتبة العمارة صادفهما مقيم جديد يحمل حقائبه وبعض الكتب، يبدوا من ملامحه أنه شخص متعلم، غير أن سيد احمد  توجست استغرابا من حلاقة رأسه، ألقى عليهما السلام ثم صعد السلم  كما يفعل الأنبياء المختارون من السماء، وما إن اختفى ظله خلف السلم حتى همست أم سيداحمد " وعليكم السلام أنت وعرفك ذ كيف عرف الديك" 

ضحك صيدو ملأ فهمه، ثم مضى مكبا على وجه نحو محله يجمع متاعه، وبقيت أم سيد أحمد متصلبة عند باب العمارة كعقارب ساعة عاطلة عن الحركة، تترنم بعض أجمل ما غنت ديمي "يامس يا اغلى غيد التشهار...."

**

تمر الأيام مسرعة كإيقاعات موسيقى الروك ويحمل صيدو اتراوري حقائبه وحلم الهجرة متجها إلى محطته الإفريقية الأخيرة، نواذيبو عروس الشمال المبهجرجة بجمال موقعها الجغرافي ومناخها الأخاذ، تطل بكامل غنجها على المحيط الأطلسي وكأنما تهتف في سر أمواج شواطئها "هيت لك".

انقطعت أخبارو صيدو  عن حي العمارة 510 والشارع المار من أمامها وأصبح مكان مقهاه مطعما أفريقيا لسيدة من مالي أتت نواكشوط قبل عاميين بحثا عن العمل وصادف أنها كانت تتقن صناعة مارو والحوت(الأرز بالسمك) فاستقر في خلدها أن تجرب حظها في متواضع سيكون لاحقا وجهة لكامل سكان العمارة، بما في ذلك أم سيدأحمد تكاسلت عن الطبخ في غرفتها وبدأت في مداومة الحج يوميا إلى هذا المطعم.

وفي زوال يوم حار من أيام خريف نواكشوط قدم شاب أشعث الوجه متجعد الشعر يرى عليه أثر السفر يبحث عن أحد سكان العمارة، وصادف بفعل الأقدار أن التقى بأم سيد أحد خارجة من المطعم المالي، تبادلا السلام هنيهة: 
-مرحبا!
-أهلا
-هل تعرفين أحد سكان هذه العمارة؟
- نعم، أنا  أقطن مع زوجي وابني في هذه العمارة؟ 
- أبحث عن امرأة تشتهر باسم أم سيد أحمد
-أنا هي تفضل، ما الخطب؟ 
- أنا قادم من نواذيبو، ترك لدي شاب من المهاجرين غير النظاميين هذه القلادة، أوصاني أن أوصلها إليك في حال تعثر عليه التواصل معك، كان هذا الشاب يدعى صيدو تراوري.
- وخيرت صيدو، ونعم الشاب كيف حاله؟ هل تمكن من الهجرة إلى أوروبا؟
- لا للأسف، لقد غرق زورقه، وتوفي غرقا مع ثلاثمائة مهاجر آخرين.

تسقط أم سيدأحمد وقد تمكن رعشة ما من كامل أعضاءها: أشهد أن لا إله إلا الله! كط كلتهالو، كط نبهته، كط حذرته يقير ما يسمع يواجعه.

يناولها الشاب القلادة ويمضي عائدا القرفصاء من حيث أتى.
ينبعث صوت الأذان من المسجد المجاور للعمارة، وتصعد أم سيد أحمد السلام وتدلف إلى غرفتها مغلقة عليها الباب بإحكام ثم تستلقي في سريرها وهي ترمق ابنها بنظرات الإنكسار، ثم تشغل شريطا من ديمي في الراديو: 
الهيلالة...الهيلالة...ما مرفود من إيلاه يكون الهيلالة....الهيلالة الهيلالة، الهيلالة الهيلالة...ما مرفود من ايلاه يكون الهيلالة.

محمد محمود محمد البشير