هذه المحاضرة تدور حول "سُهمة الشناقطة في العلوم الرياضية". وقد اخترتُ لها طريقَ المسألة والجواب، وهو طريق وصفه العلامة الكبير أبو الريحان البيرونيُّ في صدر كتابه "التفهيمْ لأوائل صناعة التنجيمْ" بأنه أسهل للتصور. وكتاب التفهيمِ هذا كانت ريحانة الخوارِزمية قد طلبت من البيروني تأليفه فامتثل، وابتدأ فيه بالهندسة، ثم بالحساب والعدد، ثم بهيئة العالم، ثم بأحكام النجوم. وهذا يدل على اشتغال بعض النساء المسلمات بالرياضيات، في تلك العصور!
البيروني بكسر الباء، من كلمة بيرون الفارسية، وتعني الخارج. والخوارزمية هكذا تُنطق، فإن كثيرا من الكلمات الفارسية التي أولها (الخاء والواو والألف) تنطق هكذا ( kho )، ومن أمثلة ذلك: خواجه (أي السيد العظيم)، وخواهر (أي الأخت)، وخواستن (وهو فعلٌ بمعنى أراد، وهو كثير الاستعمال في لغتهم، إذ عليه مدار التصريف في المضارع)...
كان هذا من شجونِ الحديث، وشجونُه خير منه، كما قال القاضي إِيَاسْ.
هذا، وإن أول سؤال يتبادر، ويقتضيه مكان وجودنا هذا، هو: ما وجه الحديث عن الرياضيات في بيت الشعر؟
والجواب أنه لا يَبعد أن يكون في الناس مَن يّظن أن هذا الأمر يشبه أن يكون كالجمع بين الضدين، أو كالتأليف بين الضب والنون، وكأن الظانَّ ذلك يُنشد بلسان حاله قول شاعر قريش أبي الخطاب عمرَ بنِ عبد الله بن أبي ربيعةَ المخزوميِّ:
أيها المنكح الثريا سهيلا❤️عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت❤️وسهيل إذا استقل يمانِي!
حقًّا أن لهذا الظن حظا من النظر، بيد أنه قد ينبغي إدراك بعض الروابط -الحقيقية والمجازية- بين الرياضيات والشعر:
- أولا، لأمر مّا، درج كبارُ أهل العلم بالحساب، من الهند الأولى، كآريباتا وبراماگوبتا وغيرِهما، على نظم كتبهم بأوزان. نعم، قال أبو عثمانَ عمرُو بنُ بحر الجاحظُ في كتاب "الحيوان" له إن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب! ورحم الله أبا عثمان، فإن كلامه هذا يحتاج إلى بيان وتبيُّن!
- ثانيا، من الأعمال الرياضية المشهورة أرجوزة ابنِ الياسَمينْ في الجبر والمقابلة، وقد شرحها ابن الهائم المصريُّ، ووصفها بأنها "المنظومهْ، التي قد بلغت في الحسن مرتبة معلومهْ، واشتهرت لحسن قصد صاحبها، في مشارق الأرض ومغاربها". نعم، هي أرجوزة، وقد قال أبو العلاء المعريُّ في "رسالة الغفران" له: "وإن الرجز لمن سفساف القريض"!
- ثالثا، سيأتي في خلال حديثنا -إن شاء الله- عن أعمال ولد بلعمش العلويِّ الشنقيطي، وانبوي اعمر المحجوبيِّ الولاتي، وغيرِهما ما يؤكد الروابط بين الرياضيات والشعر في حالتنا نحن.
- رابعا، علماء الرياضيات الكبارُ كان منهم شعراءُ مفلقون. وقد اشتهرت الرباعياتُ المنسوبةُ إلى العلامة الحكيم عمرَ الخياميِّ في العالم بأسره (الأصح أن يقال الخياميّْ كما قالت العجمُ الغزاليّْ، والهراسي، والشحامي). ومن علماء الرياضيات الأوروبيينَ شعراءُ في ألسُنِهم كگوتفريد ڤيلْهِم فون لايبنتز الألمانيِّ، وسوفيا كوڤاليِيفْسْكِييَا (sofia kovalyévskéa) الروسية، وغيرِهما.
- خامسا، وجدنا في أشعار بعض الفحول كالنُّوَاسِيِّ وغيره، إشاراتٍ وتنبيهاتٍ حسابيةً. وكذلك، في بعض المقطعات المنسوبةِ إلى زرقاء اليمامة وغيرها.
- سادسا، بعضُ جهابذةِ نقادِ الشعر كان لهم بصر بالحساب وما في معناه. فهذا كافي الكفاةِ الصاحبُ إسماعيلُ بن عباد يقول في رسالته في "الكشف عن مساوئ شعر المتنبي": "ومنْ عيون قصائده التي تُحيِّر الأفهام، وتفوت الأوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرثماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقي، قوله: أحادٌ أم سداس في أحادِ❤️لييلتنا المنوطة بالتنادي".
- سابعا، العالمُ الإنجليزيُّ المشهور هاردي، وهو مكتشف العبقري الهندي المختضر -أي الذي مات شابا- اسرينيفاسه رامانودجن، له كتاب طريف اسمه A mathematician’s apology "اعتذار عالم رياضيات". وقد وازن في غير ما موضع منه بين الرياضيات وبين الشعر.
- ثامنا، العالمُ الفرنسي المشهور سيدريك ڤيلاني، أحدُ الحاصلين على ميدالية "فيلدز"، وهي في الرياضيات كجائزة "نوبل" في الطب وغيره، له كتاب صدر قبل بضع سنين عنوانه:
Les mathématiques sont la poésie des sciences
"الرياضيات هي شعر العلوم".
- تاسعا، من أقوال الأستاذ الدكتور الفاضل محمدن ولد أحمدو "الرياضيات شعر في بحر المنطق".
- عاشرا، لا أُخْفي أني قد نظرتُ في عنوانِ هذا الكتاب بالذات: "شواهدُ من رياضيات الشناقطة" إلى مصطلحِ "الشواهدِ الشعرية".
السؤال الثالث: ما هو التقويم المنصف لأعمال الشناقطة في الرياضيات؟
والجواب أنه قد جمعَتْني والأستاذَ الفاضل عبدَ الودود ولد الشيخ رحلةٌ مدة أيام، قبل بضع سنين، وكنا نخوض في أثنائها في ألوان من الحديث، وجرى ذكرُ تحقيقي لجملة من أعمال الشناقطة في الرياضيات، فأخبرني أنه كان قد سأل الأستاذَ يحيى مثلَ ذلك، إلا أنه لم يجده يرفع بأعمال القوم رأسًا، وربما كان يستصغرها. ولا شك أن رأي الأستاذ يحيى له وجاهته، فمن الناحية الرياضية المحضة لا يُنتظر من الشناقطة أن يكون لهم كبيرُ إبداع في هذه المجالات. وذلك لجملة من العوامل: فلا زمانهم، ولا مكانهم، ولا سائر ظروفهم تدفع إلى الاشتغال بهذه العلوم أصلا، فضلا عن النبوغ فيها.
أما زمانهم فإن هذه العصور الأخيرة كانت عصور انحطاط في العالم الإسلامي كله، وقد ضعفت فيها الحركة العلمية، بل كادت تتوقف مرات. وقد قَلَّ فيها تداول الكتب جدا، حتى كتبُ التاريخ! وهذا عبد الرحمن الجبرتي، وكان في القاهرة -وهي بلا شك إحدى حواضر الإسلام الكبرى- يقول في صدر تاريخه، بعد أن ذكر أسماء عدد من المؤلفات التاريخية: "وهذه صارت أسماءً من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاءٍ مدشَّتة، بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس...".
فإذا كان هذا حالَ كتب التاريخ -مع إقبال أكثر الناس عليها- فما ظنكم بكتب الرياضيات؟!
ولقد حكى عبدُ الرحمن الجبرتيُّ نفسُه شيئا من قصة والي مصر في أواسط القرن الثاني عشر الهجري (الثامنَ عشر الميلادي) وكان محبا للعلوم الرياضية، فلما جاء إلى مصر ودخل عليه جماعة من علماء الأزهر الشريف سألهم عن الرياضيات، فقالوا: "لا نعرف هذه العلوم" فتعجب وسكت، ثم صار يقول بعدها: "المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمُعَيديّ خير من أن تراه". (قوله "الديار الرومية" يريد به تركيا مقرَّ السلطنة العثمانية). وقد ذُكر له -بعدُ- الشيخُ حسنُ الجبرتي (والد عبد الرحمن المؤرخ) فأرسل إليه، فلما جاءه أعجب به واشتغل عليه واستفاد منه كثيرا. وكان بعضُ شيوخ الأزهر كلما لقي الجبرتيَّ الكبيرَ بعد ذلك قال له: "سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا، فإنه لولا وجودك، كنا جميعا عنده حميرا".
فأين هذا من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مثلا، على كل ما كان فيه من اضطرابات سياسية؟! هنالك كان علماء الرياضيات المسلمون يحُلُّون ما عجز عنه أرشميدس نفسه! ودونكم مثالَ عملِ ضلع المُسَبَّع المتساوي الأضلاع في دائرة الذي اعتاص على أرشميدس، فقد خاض في تلك المعمعة علماء كبار في ذلك العصر، على رأسهم: أبو الجود محمد بن الليث، وأبو محمد عبد الله بن علي الحاسب، وأبو حامد الصاغاني، وأبو سهل وَيْجَن بن رُستَم القوهي (أو الكوهي، ومعنى "كُوهْ" الجبل بالفارسية)، وأحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي، والعلاء بن سهل، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الشّنّي، ونصر بن عبد الله، وغيرهم.
نعم، لم تَخْلُ عصور الانحطاط من علماءَ في الرياضيات وغيرها، وقد ذَكَر بعضَهم طاشكپري زاده في كتابه "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية". وقد سُئلتُ عن قول الشيخ محمد المامي في بعض قصائده في عد الحصى: "...إمامُ حي بقسطلان مصطافِ"، فكان أولَ من تبادر إليَّ، وأرشدتُّ السائلَ إليه: العلامةُ مصلح الدين (مصطفى) بن محمد (القسطلاني) فإن له أعمالًا في علم الهيئة، منها رسالة في جهة القبلة...
هذا، وأما سائر ظروف الشناقطة فلم يكن فيها شيء يشجع على الاشتغال بالرياضيات أصلا! فهم قوم يعيشون في البوادي، في شظفٍ من العيش وعزلةٍ عن العالم الخارجي، مع السيبة وغياب السلطة المركزية، وانعدام أكثر البواعث على الاشتغال بغير علوم الشرع واللسان. ولو لم يؤلفوا شيئًا لكان ذلك مفهومًا!
على أن الاهتمام برياضيات الشناقطة لا يخلو من فوائد أخرى: ثقافية، وتاريخية، واجتماعية... فمن الفوائد التعرف على هذا الجانب الخفي من تراث القوم لتكتمل صورتهم في الأذهان، ومنها الاستفادة منه في تعريب التعليم: فإن كتاب انبويَ عمر ولد محمد عبد الله المحجوبي الولاتي مثلا ييسِّر كثيرا تعريب علم الحساب، ومنها تعزيز فكرة المواطنةِ، والابتعادِ عن المذموم من الجهوية والقبلية وما إليهما.
ولا يتسع وقت هذه المحاضرة لإشباع القول في ذلك!
السؤال الرابع: ما هي أهمية كتاب "الشواهد"؟
والجواب، من باب التحدث بنعمة الله:
أولا- يُعتَبَرُ كتابُ "الشواهد" أوّلَ كتابٍ يُطبع في موضوع رياضيات الشناقطة. وقد سبق لي تأليفُ كتابٍ آخرَ قبله بسنوات، هو أولُ كتابٍ أُلِّفَ في هذا الموضوع على الإطلاق، واسمه: "حَذْفٌ مِن رياضيات الشناقطة"، وقد درستُ فيه وحقّقت أهمَّ ما انتهى إلينا من أعمال القوم في الرياضيات. وكنتُ قد أشرتُ، عَرَضًا، إلى بعض محتوياته في مقالةٍ نُشرت في القاهرة، قبل بضع سنين، في مجلة معهد المخطوطات العربية. ولِهَذين الكتابين: "الشواهد" و"الحَذْف"، أخٌ ثالثٌ حافلٌ محيط، شرعتُ فيه، واسمه: "استئصالٌ مِن رياضيات الشناقطة". والغرضُ من هذه الكتب الثلاثة أن يُسلِّطَ كلُّ كتابٍ منها الضوءَ على الموضوع من زاويةٍ معيّنة، مستهدِفًا فئاتٍ معيّنةً من القراء. وهي تحيط بعامة ما انتهى إلينا من تراث الشناقطة في العلوم الرياضية بمفهومها الواسع إحاطةَ السوار بالمعصم.
ثانيا- جمعتُ في كتاب "الشواهد" عُصارةَ ما تفرق في بطون مئات الكتب والمقالات العلمية المحكّمة، في مجالَي الرياضيات وتاريخها، ممّا طالعتُه بلغات مختلفة: شرقية وغربية. ولا شك في أن القارئ المتدبر لما في هذا الكتاب سيحيط إحاطةً دقيقة بأهم جوانب الرياضيات العربية الإسلامية وبعُصارة تاريخها.
ثالثا- أرشدتُ القارئَ، الراغبَ في الاطلاع، إلى عشراتٍ مِن أهمِّ المصادر والمراجع، فذكرتها بالتفصيل ليرجع إليها إن أحب، وكثيرٌ منها متاح للتحميل على الإنترنت.
رابعا- أضفتُ إلى ما في الكتب والمقالات العلمية أشياءَ مهمة لم أُسبَق إليها: فمنها ما صرَّحتُ به، ومنها ما أشرتُ إليه بنوع من الإشارة. وسيُدرِكُ كبارُ المختصين صحةَ ذلك.
خامسا- أرسلتُ منه نسخةً إلى أحد كبار المختصين العالميين في مجال تاريخ الرياضيات العربية الإسلامية، فأثنى على الكتاب ثناءً بالغًا، ووصفه بأنه كتابٌ مُذهل إلى أبعد الحدود “absolutely fascinating book”.
سادسا- سيَخرج القارئُ لهذا الكتاب بقناعة أكيدة أن الشناقطة قد ألفوا في العلوم الرياضية، وذلك أني ذكرت فيه ثلاثة مجالات رياضية هي: الجبر والحساب والفلك، وأتيتُ في كل مجالٍ منها بعُصارة تاريخه في الحضارة العربية الإسلامية (مِن بدايتها حتى العصر الحديث!)، وشفَعتُ ذلك بالاستشهاد بأنموذج من أعمال الشناقطة يشهد شهادةً قاطعة أن القومَ قد ألّفوا في المجال المذكور. بل إني قد صوّرتُ المخطوطات بتمامها، وجعلتُها في آخر هذا الكتاب شواهدَ حيَّةً ناطقة، حتى لا يبقى مجالٌ للشك، وحتى يَرجع إليها من أراد قراءتها فهي واضحة الخطوط، وقد قدّمتُ بين يديها جمهرةَ الإرشاداتِ الضروريةِ المُعِينةِ على الاستفادة منها.
سابعا- اخترتُ في هذا الكتاب ثلاثةَ شواهدَ من أعمال الشناقطة، اقتداءً بالعرب العكاظيين، وذلك أن العلامة أبا عبيدة معمر بن المثنى قد قال في صدر كتاب "الديباج" له: "كان العرب العُكاظيون لا يعدُّون من الشيء إلا ثلاثةً ثم يكفُّون ولا يَزيدون عليها شيئًا، وإن لَحقَ بعدُ شيءٌ مثل الثَّلاثة التي عدُّوا قبل ذلك لم يعدوه معه". والشواهد المختارة هي لثلاثة أعلام من أعلام الشناقطة، وقد اخترتهم دون أدنى اعتبار لعرقية ولا لجهوية ولا لقبلية، وإنما اخترت أعمالهم لأن كل واحد منها أبْلَغُ مثالٍ في مجاله الرياضي.
ثامنا- جعلتُ الكتابَ مع دقته التامة، قريبَ المأخذ في مادته الرياضية حتى يتسنى لأكبر قدر ممكن من الناس مطالعتُه دون كثير سأمٍ وضجر. كما أني حاولت جعل أسلوب الكتابة عصريّا حتى لا يستثقله مَن قطَعَ دهرَه في العلوم البحتة دون الآداب وما إليها. وحذفتُ الحشو والفضول، ويسَّرتُ عرضَ المادة بحيث يفهمها غيرُ المختص ويُدرك قيمتَها المختص. وقد جعلتُ الكتاب مفهومًا لأكبر عددٍ ممكن من القرّاء. وهذا قريبٌ مِن صنيع ابن حزم في كتابه "التقريبُ لِحَدِّ المنطق والمدخلُ إليه بالألفاظ العامّية والأمثلة الفقهية"، ومِن صنيع ديكارت حين وضع كتابه "مقال في المنهج" باللغة الفرنسية وعَدَل عن الكتابة باللغة اللاتينية التي كان يكتب بها خلائق من المتحذلقين في زمانه، وكان يفتخر بأنه حتى النساء كن قادراتٍ على فهم أشياء من كتابه ذاك!
تاسعا- أردتُ لهذا الكتاب أن يشوّق طبقات القراء جميعًا، وأن يُفيدهم، ويُمتعهم، ويَخِفَّ على قلوبهم، فاستطردت فيه -عند اللزوم- إلى ذكر فوائدَ اقتضاها السياق: في اللغة، والأدب، والتاريخ، والاجتماع، ولغاتِ الأمم، وأديانها، وغير ذلك. وهذا قريبٌ من نهج الجاحظ، والمسعوديّ، وابن دِحية، وابن خلدون، وغيرهم من فحول العلماء.
عاشرا- لَم أجعل كتاب "الشواهد" طويلًا طولًا مُمِلًّا، ولم أختصره اختصارًا مُخِلًّا، بل كان بَيْنَ بَيْن، وجَمَعَ الحُسْنَيَيْن.
تلك عشرة كاملة!
السؤال الخامس: ما هو الشاهد الدال على مشاركة الشناقطة في التأليف في علم الجبر؟
والجواب أنها "رسالة في الجبر" لزين العابدين بن أَشْفَغَ الأمين الدَّيْماني، المتوفَّى سنة ١١٨٥ للهجرة.
ولا بأس بذكر نبذة يسيرة عن علم الجبر، فهو علمٌ مستحدث في الإسلام، وواضعه هو محمد بن موسى الخوارزمي، على التحقيق. ولا يزال هذا العلم يُعرف باسمه العربي في لغات الدنيا بأسرها. كما أن نسبة الخوارزميِّ هي التي جاءت منها فيما بعدُ كلماتُ algorithme الفرنسية، و algorithm الإنجليزية، و algoritmo الإيطالية، وغيرُها. وقد ألّف الخوارزميُّ كتابه الرائد لأمير المؤمنين عبد الله المأمون، وقدّم فيه طرق حل معادلات الدرجة الثانية، فما دونها. وقد ذكر في أوله ثلاثة مصطلحات عليها مدار الكتاب، هي: الجذر، والمال، والعدد. فالجذر هو الشيء المجهول أو هو "س" بتعبيرنا المعاصر (وأصله "ش" من الشيء)، والمال هو مربعه (أي ضرْبُ الجذر في نفسه)، والعدد هو ما لم يكن منسوبا إلى جذر ولا إلى مال (فالعدد يكون معروفا). ولمّا لم تكن الأعداد السالبة معترَفًا بها في تلك العصور، فقد احتاج الخوارزمي إلى النظر في ست حالات: ثلاثٌ منها مفردة وثلاثٌ مقترنة. ولا يتسع الوقت للتفصيل.
وقد نبغ بعد الخوارزمي عبقريٌّ آخر -انتهى إلينا عمله- هو أبو الحسن ثابت بن قرة الحرّانيُّ الصابي الذي ألّف في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية قولًا وجيزًا بيَّنَ فيه أن مسالك أصحاب الهندسة موافقة لمسالك أصحاب الجبر.
وقريبًا من عصر ثابت، نجم أبو كامل شجاع بن أسلم المصري، ومِن أهم ما زاده أبو كامل على الخوارزمي ما نسمّيه الآن التحليلَ الديوفنطسي أو التحليل اللامحدود. ولعلكم تَعجبون إذا علمتم أن كتاب أبي كامل، وكتابَ الخوارزمي من قبله، وهما في الجبر وحلِّ المعادلات، ليس فيهما رموز رياضية!
هذا، وقد ظهر بعد ذلك تيّاران كبيران في الجبر: تيارٌ ربط الجبر بالحساب، وتيار ربط الجبر بالهندسة.
أمّا التيار الأول منهما فزعيمه أبو بكر الكَرَجي. والمثلث المنسوب الآن إلى پاسكال le triangle de Pascal، قد سبقه الكرجيُّ إليه بأكثر من ستة قرون!
وقد كان من أعلام التيار المذكور السموألُ بن يحيى المغربيُّ صاحب "الباهر"، وعزُّ الدين الزَّنجانيُّ صاحبُ "قسطاس المعادلة في علم الجبر والمقابلة"، وفخر الدين الخِلاطي صاحب "نور الدلالة في الجبر والمقابلة"، وغيرُهم.
وأمّا التيار الثاني فزعيمه عمرُ الخيامي المشهور، وهو صاحب مقالة في الجبر والمقابلة خلّدت اسمه رائدًا في مجال الهندسة الجبرية. وكثيرًا ما وازن المختصون بين مقالته هذه وبين القسم الأول من كتاب ديكارت الموسوم ب"الهندسة". لقد قدّم الخيامي في مقالته حلولا هندسية لمعادلات الدرجة الثالثة مستعينا بالقطوع المخروطية coniques. ولعلكم تذكرون أن الخوارزمي كان يَعتبر في كتابه ثلاث مراتب هي: العدد والشيء والمال، فكانت المسائل عنده ستّا، وقد زاد الخيامي مرتبة رابعة هي الكعب، فصارت المسائل بذلك خمسا وعشرين، ولا يتسع الوقت للتفصيل.
ثم نبغ بعده شرفُ الدين الطوسي الذي درس تلك المسائلَ كلها مسألةً مسألة، وفحص عن الحلول. وقد أتى في أثناء بحثه عن تقريب حلول معادلات الدرجة الثالثة بما يُعرف اليوم بطريقة روفيني-هورنر Ruffini-Hörner، وحام حول مفهوم المشتق dérivée، وغيرِ ذلك. ويُعتبرُ كتابه أصعب كتابٍ عربي أُلّف في الجبر، على الإطلاق. ولم ينته إلينا أصْلُ ذلك الكتاب، بل الذي انتهى إلينا هو تهذيبٌ له. ولم يكنْ أحدٌ من المختصين يعرف صاحب هذا التهذيب إلى أن منَّ الله عليّ فعرفته.
والرأيُ الغالبُ أنه من الصعب تجاوز ما في هذا الكتابِ بشكل حقيقي، دون اللجوء إلى استحداث رموز رياضية فعّالة.
هذا، وأما زينُ العابدينَ المذكورُ في أول الجواب، فقد وصفه الأستاذ المختار ولد حامدٌ بأنه كان "خبيرا بعلم الحساب والجبر" وأنه كان شيخَ أولاد ديمان. وقد ذُكر أنه تخرَّجَ به جماعةٌ، منهم ربيبتُه العالمة المشهورة غديجة بنت العاقل، صاحبة الطرّة على سلّم الأخضري في علم المنطق.
وقد قيل في ترجمته إنه حج ومر بالجامع الأزهر "وجاء معه بعلم الرياضيات والمنطق". قلتُ: فَعَلَى هذا يغلِب على ظني أنه لقيَ الجبرتيَّ الكبيرَ هناك، وكان في ذلك العصر، وقد تقدّم ذكره، وأنه كان -في زمانه- العالمَ الأزهريَّ الوحيدَ المتمكنَ من الرياضيات!
هذا، وقد نقل مسائلَ زينِ العابدينَ الجبريةَ الأستاذُ المختارُ في جزء أولاد ديمان (بعض المجموعات الشمشوية)، وإليكم المسألةَ الأولى، ثم تعليقي الوجيزَ عليها.
قال:
"إذا قيل لك الذيب يأكل الشاة في نصف النهار والليث يأكلها في ثلثه. في أي جزء يأكلانها إذا اشتركا؟ فخذ النصف والثلث واقسِم إمام(مقام) كل على بسطه واجمع الخارج وسم منه واحدا يخرج لك اسم الجزء. وذلك خُمس. وصورة ذلك أن تقسم إمام الثلث وهو ثلاثة على بسطه وهو واحد تخرج لك ثلاثة. وتقسم إمام النصف على بسطه كذلك يخرج اثنان فتجمعَ الخارجين بخمسة فتسميَ منها واحدا بخُمس".
أقول تعليقًا على المسألة الأولى: الفكرة أن الذئب الذي يأكل شاةً في نصف النهار يأكل شاتين في النهار، والليث الذي يأكل شاةً في ثلث النهار يأكل ثلاث شياه في النهار. فالذئب والليث معًا يأكلان خمس شياه في النهار، فإذا اجتمعا على شاةٍ واحدة أكلاها في خُمس النهار، وهو المطلوب!
ولا يتسع الوقت لذكر سائر المسائل.
السؤال السادس: ما هو الشاهد الدال على مشاركة الشناقطة في التأليف في علم الحساب؟
والجواب أنه كتابُ "شرحِ نزهةِ الألباب في علم الحساب" لانبويَ عمر ولد محمد عبد الله المحجوبي الولاتي، المتوفَّى سنة ١٢٦٠ للهجرة. وولَاتة قديمةُ الذكر في الكتب. فقد ذكرها، مثلًا، لسانُ الدين بن الخطيب في كتابه المشهور: "الإحاطهْ في أخبار غرناطهْ"، وذكرها عصريُّه ابن بطوطة في رحلته.
وذكرها -بعدُ- مرتضى الزَّبيديُّ في "تاج العروس" فقال: "وَلَاتَة، كسَحَابَة، مدينةٌ بالمغرب الأقصى، بينها وبين شنقيط عشرون يومًا، فيها قبيلةٌ من العرب يقال لهم: المحاجيب".
هذا، ومِن المحاجيب: انبويَ عمر صاحبُ الشاهد. وقد كُتبت نسخةٌ من كتابِ "شرحِ نزهة الألباب" للشيخْ سيدي الكبير، كتبها محمد ولد مولود ولد المحمود لَلَّه، من آل محنض نللَّ. وهذا دالٌّ على أهمية ذلك الكتاب عند العلماءِ الذين عاصروا المؤلف. والشيء بالشيء يذكر، فقد نصَّ الشيخ سيدي الكبير على أنه سلك في قصيدته التي تُقرأ على أوجه عديدة: "طلعت ببرجك للبرية أسعد" مسلكَ انبويَ في إحدى قصائده الفاخرة الباهرة.
وقد ظهر لي أن انبويَ نفسَه قد سلك في قصيدته مسلكَ ابنِ المُقري اليمانيّ في كتابه "عنوان الشرف الوافي في علم الفقه والتاريخ والنحو والعروض والقوافي"، وهو كتابٌ إنْ نظرنا فيه أُفُقيا وجدناه كتابًا في الفقه، وإن نظرنا فيه عموديا وجدنا أربعةَ كتبٍ وجيزةٍ في التاريخ، والنحو، والعروض، والقوافي. وقد حاول السيوطيُّ وغيرُه من العلماء الإتيان بمثل ذلك الكتاب، وأَدخل بعضُهم في محاولته علمَ الحساب، ولستُ أرى الإطالة بتفصيل ذلك، فحسْبُنا أن نعلم أنَّ بعض نسخ كتاب ابن المُقري موجودة في ولاتة!
هذا، و"النزهة" المذكورة نظم للجزء الأول من كتاب "كشف الأسرار عن علم حروف الغبار" للقلْصادي، والشرح للناظم نفسه. وكتاب القلصادي أربعة أجزاءْ، الجزء الأول منها في العدد الصحيح، وفيه ثمانية أبواب: الباب الأول في الجمع، والباب الثاني في الطرح، والباب الثالث في الضرب، والباب الرابع في القسمة، والباب الخامس في حل الأعداد إلى أئمتها، والباب السادس في التسمية، والباب السابع في المحاصات، والباب الثامن في الاختبار.
والقَلْصاديُّ هذا هو آخرُ علماء الرياضيات الكبارْ الذين نَبَغُوا في بلاد الأندلس. وهو مشهورٌ جدًّا، وقد ذكره عدد من الباحثين المعاصرين، من العرب والأوروبيين وغيرهم، إلا أن كثيرًا منهم يجعلون نسبته بفتح اللام فيقولون "القَلَصادي"، وهذا وهم، فإني وجدتُّ تلميذَه العلّامة برهان الدين البقاعي -وهو أعلم باسم أستاذه ومُجِيزِه- قد ترجم له في كتابه "عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران" فقال: "علي بن محمد ... الشهير بالقلصادي -بفتح القاف وإسكان اللام ثم مُهْمَلة".
هذا، وللقلْصادي مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه المذكور "كشفُ الأسرار" (وقد يسمى في بعض النسخ "كشفَ الأستار")، وقد ذكر المؤلفُ نفسُه في بداية الكتاب أنه اقتطفه من كتابه المسمى "كشفَ الجلباب عن علم الحساب". وكتاب "كشف الأسرار" هذا يعرفُه المختصون في الرياضيات منذ القرن التاسعَ عشرَ الميلاديِّ حين ترجمه مؤرخ العلوم الكبير ڤيبكه Woepcke إلى اللغة الفرنسية. وكان ڤيبكه يرى أن القلْصادي هو أول من استخدم الرموز الجبرية في أواخر كتابه هذا. وقد شاع هذا الرأيُ وذاع، وتبنّاه أكثرُ الباحثين، لكن بحوث السنوات الأخيرة أثبتت انتشار أمثال هذه الرموز قبل القلْصادي، وخاصةً في الغرب الإسلامي، فنجد منها عند ابن الياسمين وابن قنفذ وابن الهائم المصري وغيرهم.
على أن هذا لا يقلل من قيمة كتاب "كشف الأسرار"، فإنه كان من أكثر الكتب الرياضية انتشارًا في الغرب الإسلامي كله، وقد استفاد منه خلائق لا يُحْصَونَ كثرةً، تدلُّ على ذلك كثرة نُسخه الخطية في هذا الجزء من العالم. ففي المغرب مثلًا، في الخزانة الحسنية وحدها اثنتان وثلاثون نسخهْ. وفي تونس، والجزائر، ومصر وغيرها نُسخٌ كثيرة جدا، وكذلكم في موريتانيا.
وقد شَرَحَ كتابَ "كشف الأسرار" جماعةٌ من علماء المغرب والجزائر وتونس، ذَكَرَ بعضَهم المحققُ الدكتورُ محمد سويسي، وهم: سالم بن سالم القيرواني نسبًا البنزرتي مولدًا المصري دارًا صاحب كتابِ "هدايةِ البادي لكتاب القلصادي"، ومحمود بن سعيد مَقْدِيش الصَّفاقُسي صاحب كتابِ "إغاثةِ ذوي الاستبصار على كشف الأستار"، والشيخ طْفَيِّش نزيل غَرْدَاية من مِزَاب الجزائر صاحب كتابِ "شرحِ كشف الأستار"، والفقيه أَقْصْبي صاحب كتابِ "منحةِ الأفكار لإبراز الإضمار من كشف الأسرار في علم حروف الغبار".
وقد فات المحققَ الفاضلَ -رحمه الله- أن عالمًا من علماء ولاتة قد نظم الجزء الأول من كتاب "كشف الأسرار" ثم شرح النظمَ بنفسه. وإني لأُكرّرُ التنبيه على أهمية الاستفادة من كتاب انبويَ في تعريب تعليم الحساب.
هذا، وقد بيّنتُ في كتاب "الشواهد" أنواعَ الحساب التي كانت معروفة في الحضارة العربية الإسلامية، فذكرتُ حسابَ الهند وهو حسابُ الغبار، وحسابَ الجمّل، وقد أتيتُ بمثالٍ يؤكد ما ذهب إليه صاحب "التكملة في تاريخ إمارتَي البراكنة والترارزة" في تحديد سنة وفاة الشيخ سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، وكان صاحبُ "الوسيط" قد ذكرها على التقريب.
وذكرتُ حسابَ اليد، ويسمى حساب العَقد أو العقود، وربما سمي حساب الروم والعرب، وحساب القبط أيضا. وقد أطنبتُ في ذكر بعض الكتب الحسابية القيِّمة ككتاب أبي الحسن الأُقليدسي في الحساب الهندي، وكتابِ أبي الوفاء البوزْجانيِّ في المنازل السبع، وأرجوزةِ "لوحِ الضبط في علم حساب القبط" لابن المغربي التي حققها الدكتور رمضان عبد التواب ونشرها في مجلة معهد المخطوطات العربية، ولا يتسع الوقت لتفصيل ذلك.
السؤال السابع: ما هو الشاهد الدال على مشاركة الشناقطة في التأليف في علم الفلك؟
والجوابُ أنه كتاب "شرحِ روضة الأفكار في علم الليل والنهار" لأبي عبد الله محمد بن المختار بن الأعمش العلوي، العالمِ الشنقيطي المشهور. وفي صدر النسخة الخطية، ترجمةُ ابنِ رازگة -الشاعرِ المشهور- له.
و"الروضة" المذكورة قصيدة له في علم الفلك، وقد شرحها بنفسه في كتابه هذا الذي نستشهد به.
وإليكم بعضَ أبواب الكتاب، فمِنها: بابُ معرفة الأيام المهمة من السنة العجمية، وبابٌ في أسماء الشهور وعدد أيامها، وبابٌ في معرفة الشهور العربية وأيامها وكَبْسِها، وبابُ معرفة الفصول ومنازلها، وبابُ معرفة المنازل الجنوبية والشمالية، وبابُ معرفة بروج الشمس والقمر، وبابٌ في النظائر، وبابُ قسمة المنازل على البروج، وبابُ معرفة القطب والجهات، وبابُ معرفة ساعاتِ الليل بطلوع القمر وغروبه، وبابُ معرفة ساعات الليل بالمنازل، وبابُ معرفة القِبلة، وغيرُ ذلك من الأبواب.
وقد ذكر في كتابه عددًا من مشاهير المغاربة، كالتاجُوري، والجادِري، وغيرِهما.
والنسخة الخطية تقع في اثنتين وثلاثين صفحةْ، وهي ناقصة الآخِر، وقد جاء في صفحتها الثانية ما يدلُّ على بصر المؤلف بعلم الجبر والمقابلة.
هذا، وقد ذكرتُ في "الشواهد" عصارة تاريخ علم الفلك في الحضارة العربية الإسلامية: فذكرتُ عِلْمَ العرب بالأنواء في جاهليتها وصدر إسلامها، وذكرتُ حاجة القوم إلى علم الميقات وما إليه بعد الفتوح، ثم ما تُرجم من كتب علم النجوم في خلافة أبي جعفر المنصور وغيره، ثم جمهرةَ ما أضافه المسلمون، من لدن ذلك العهدِ إلى عهدِ محمد علي باشا وخلفائه بمصر.
وذكرت مبرِّزي الفلكيين المسلمين، وما استفاده منهم أعلام الأوروبيين في عصر النهضة.
هذا، وقد راعيتُ ضيق وقت المحاضرة، فاختصرتُ الكلام اختصارا أخشى أن يكون مخلا، وأكره أن يكون مملا.